ويبدو أن تهمة «الاسپينوزية» أصبحت في ذلك العصر تلقى جزافا على كل رأي يراد قمعه أو كل شخص يراد التنكيل به أو كل انحراف عن النظام السائد سواء في الدين أو السياسة، وسواء أكان الانحراف يرمي إلى الهدم أم إلى البناء - وواضح أن «للاسپينوزية»، في هذه الناحية، مقابلا يناظرها في عصرنا هذا إلى حد بعيد! وهكذا وصل الأمر إلى حد أن الكتاب كانوا يتبارون في انتقاد مذهب اسپينوزا وسب صاحبه، تملقا منهم للسلطات المسيطرة. أما إذا اشتبه في أن مفكرا معينا كان يعطف على اسپينوزا؛ فقد كان هذا المفكر يسارع إلى تفنيد اسپينوزا والحملة عليه علنا، ويتخذ من ذلك وسيلة لتبرئة نفسه أمام الرأي العام، وأمام السلطات الدينية والمدنية، وهكذا يقول فريدمان: «إنه ليس من المبالغة أن نقول: إن الجو العقلي في ذلك العصر كان له تأثير مثبط، بل مفسد للعقول وكان يزيف العملية الفكرية ذاتها لدى الكثير من هذه العقول.»
25
ولقد سبق أن أشرنا من قبل إلى تأثير شهرة اسپينوزا هذه بالمروق في كثير ممن اتصلوا به، ولا سيما ليبنتس؛ فقد حرص ليبنتس بقدر استطاعته على أن يخفي كل أثر لارتباط اسمه باسم اسپينوزا، ولم يذكر عن مقابلاته لاسپينوزا سوى أنها كانت عرضية تناولت موضوعات عامة، مع أن ليبنتس كان من أحرص الناس على الاطلاع على كل ما كتبه اسپينوزا، فضلا عن أنه ناقشه فيها مناقشات مستفيضة أثناء زيارته له في هولندا.
وهكذا كان الجو في ذلك العصر يحتم على الكاتب إما أن يتمشى مع الآراء السائدة أو أن يكون حذرا في كتابته، ويضع قناعا على شخصيته الحقيقية. وقد اختار ليبنتس الطريق الأول، أما اسپينوزا فقد اختار الطريق الثاني، وآثر أن يستمر في طريق التحرر الفكري، معا محاولته، بقدر الإمكان، ألا يعرض نفسه لسخط السلطات المسيطرة في عصره. وسنرى فيما بعد إلى أي حد نجحت هذه المحاولة.
فلننتقل الآن، بعد بحث أسباب الحذر، إلى ضرب أمثلة لمظاهر هذا الحذر عند اسپينوزا، ومن الطبيعي أن الجزء الأكبر من هذه الأمثلة سوف يستمد من رسائله؛ إذ إنها هي التي تكشف، أكثر من غيرها، عن موقفه الشخصي من المشاكل التي واجهها، على حين أن مؤلفاته ذاتها كانت تبتعد عن النواحي الشخصية من حياته قدر الإمكان. ويمكن القول بوجه عام، إن رسائل اسپينوزا تمثل كلها دليلا واحدا متصلا على أن الحذر كان حقيقة أساسية في حياته، وعلى أنه كان يرى في الآخرين «خطرا دائما»، فلم يفصح لهم عن سريرته أبدا.
26 (أ)
وأول ما يطرأ على الذهن هنا، من مظاهر الحذر، هو طبيعة الحال إخفاء اسپينوزا لاسمه في كتاباته؛ فالكتاب الوحيد الذي ظهر باسمه خلال حياته هو «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، وهو أيضا الكتاب الوحيد الذي لا يتضمن آراءه الفلسفية الخاصة، ومع ذلك فإن اسپينوزا كان يرمي من نشر ذلك الكتاب إلى تنبيه الحكام إلى مكانته الفلسفية، لعل واحدا منهم يضمن له بعد ذلك نشر آرائه الأخرى دون خوف؛ فهو يقول في رسالته رقم 13: «ربما كشف هذا الكتاب عن وجود أشخاص ذوي مكانة رفيعة في بلادي، يرغبون في الاطلاع على مؤلفاتي الأخرى التي أعرض فيها آرائي الخاصة، وربما عملوا ما من شأنه أن يمكنني من نشرها دون خطر. ولو حدث ذلك، فلن أتوانى بالطبع عن نشر البعض منها، وإلا فسوف ألزم الصمت بدلا من أن أفرض آرائي على مواطني وأكتسب عداوتهم.» وقد سبق أن تحدثنا عن نشره «البحث اللاهوتي السياسي» بغير اسمه، وكتابة اسم ناشر آخر في مدينة أخرى على غلاف الكتاب، وعندما نشرت مؤلفاته المخلفة، حرص أصدقاؤه على أن يحذفوا أسماء مراسليه إذا كانوا هولنديين معاصرين، حتى لا يتعرضوا للخطر. (ب)
ولقد دارت بين اسپينوزا وبين «أولدنبرج» مراسلات طويلة يلح عليه فيها هذا الأخير على نشر كتبه، ويلزم الأول الحذر لأنه يعرف خطورتها أكثر مما يعرف ذلك أولدنبرج. وتكرر هذا الإلحاح، وهذا الرفض الحذر، مرات عديدة:
ففي الرسالة رقم 3 يطلب أولدنبرج إلى اسپينوزا أن يجيبه إجابة واضحة على أسئلة معينة حول فكرة الجوهر والله ... إلخ، ويلح عليه أن يقتنع «بأن جميع الشروح التي ستتفضل بها علي ستظل في طي الكتمان لئلا يؤدي إفشائي لها إلى إفسادها أو إلى الإضرار بك.» ويبدو أن أولدنبرج يحاول في هذه الرسالة كسب ثقة اسپينوزا بالحديث عن جماعته العلمية التي تفسر الأشياء كلها تفسيرا ميكانيكيا، «دون حاجة إلى الالتجاء إلى الصور غير المفهومة والكيفيات الخفية، وهي الملجأ الهين للجهلاء.»
ويفضي اسپينوزا إلى أولدنبرج في الرسالة رقم 6 ببعض مشروعاته ، فيقول: «لقد ألفت في هذا الموضوع [العلة الأولى] وفي تطهير الذهن مؤلفا كاملا، وأنا أعمل الآن على تدوينه وتنقيحه. ولكني أترك هذا المؤلف أحيانا؛ إذ لم أتخذ بعد قرارا بشأن نشره؛ فأنا أخشى فعلا أن يصدم رجال اللاهوت في زمننا هذا، وأن يهاجموني بطريقتهم الكريهة، وأنا على ما تعلم من خوف المشاحنات.» وفي الرسالة ذاتها يطلب إليه أن ينبئه بالنقاط التي قد تغضب مثل هؤلاء الناس، إذ إنه «... لا يقول بذلك الانفصال بين الله والطبيعة، الذي قال به الكتاب الآخرون، على قدر علمي بهم؛ ولهذا أطلب رأيك» ... فيرد عليه أولدنبرج في الرسالة السابعة ملحا عليه أن ينشر كل ما كتبه، ويدعوه إلى أن يتجاهل ذوي الأفق الضيق: «فلتطرح جانبا يا سيدي كل خوف من إغضاب جهلاء عصرنا؛ فقد طال امتداح الناس للجهل والحمق أكثر مما ينبغي.»
Bog aan la aqoon