175

والنص الآخر، الذي طالما استشهد به المفسرون اليهود، وارد في رسالة اسپينوزا رقم 76 إلى «ألبرت برج

Albert Burgh »، وفي هذه الرسالة يتحدث عن اليهود فيقول: «إن أكثر ما يباهون به، هو أن منهم شهداء يزيدون على ما لدى أية أمة أخرى منهم، وأن كل يوم يشهد أعددا جديدة ممن يتحملون العذاب من بينهم، بسبب عقيدتهم، بقلب راسخ إلى حد يبعث على الدهشة. وتلك ليست أسطورة؛ فقد عرفت بنفسي، من بين الكثيرين ممن عرفت، شخصا يدعى يهودا

Judas ، ويلقب بالمخلص

Fidèle ، أخذ ينشد وسط اللهيب، في وقت ظنه فيه الناس ميتا، هذا النشيد: إليك يا رب أقدم روحي ... ومات وهو ينشد.»

هذا النص يبدو في نظر الكثيرين، كما قلنا، معبرا عن عطف اسپينوزا على اليهود، ولكن هل هو بالفعل كذلك؟ لنتأمل السياق الذي ورد فيه : إن الرسالة موجهة إلى كاثوليكي شديد التعصب، هو «ألبرت برج»، ويناقش فيها اسپينوزا الحجة التي سبق أن تقدم بها هذا الأخير، وأيد بها عقيدته الكاثوليكية على أساس أن الملايين من الناس يؤمنون بها، وأنها ظلت محتفظة بكيانها عبر العصور دون انقطاع. والرد الذي يأتي به اسپينوزا هو أن اليهود المتعصبين بدورهم يلجئون إلى هذه الحجة دائما؛ فهم، كما جاء في الرسالة ذاتها قبل ذلك، «يشيدون، بنفس القدر من الغرور، بكنيستهم، التي ظلت حتى اليوم ثابتة راسخة، رغم ما يبديه نحوها غير اليهود والمسيحيون من عداوة مريرة. وهم يحتجون خاصة بقدمهم، ويدعون بصوت واحد أن لديهم تراثا تلقوه من الله ذاته، وأنهم هم وحدهم حفظة كلمة الله المكتوبة وغير المكتوبة ... ولكن أكثر ما يفخرون به، هو أن بينهم شهداء (إلى آخر النص الذي اقتبسناه من قبل) ...» ومن الواضح عندما يوضع النص في سياقه هذا أن المقصود به الرد على حجة كاثوليكي متعصب بما يماثلها لدى اليهود، لإثبات أن الموقفين معا باطلان، والمقصود من الأمثلة الأخيرة (التي استشهد بها الشراح اليهود) هو إثبات وجود أمة أخرى لا يقل أفرادها عن الكاثوليكيين تمسكا بعقيدتهم واحتفاظا بها مهما كانت الظروف، وتكملة الحجة، كما هو واضح من السياق، هو كما يأتي : إنك تظن أنك صاحب الدين الحق لأن عقيدتك باقية، ولكن هناك أناسا آخرين، هم اليهود، لديهم كل الأسباب التي تجعلهم يؤكدون أنهم أشد الناس تمسكا بعقيدتهم. فهل يكون لهؤلاء بدورهم أن يزعموا أن دينهم هو الحق؟ الواقع أنه لا الكاثوليكية، ولا اليهودية، يحق لها أن تدعي احتكار الحقيقة لنفسها، ومن الممكن الإتيان دائما، في كل حالة تلجأ فيها إحدى العقائد إلى الحجة القائلة بقدرتها على البقاء، بأمثلة أخرى لعقائد مخالفة لا تقل عنها قدرة على البقاء، ولكن لا هذه ولا تلك يحق لها، كما قلنا، أن تدعي لنفسها احتكار الحقيقة.

ولقد تعرض اسپينوزا، من جراء حملته على فكرة «الشعب المختار» هذه، لانتقاد بعض معاصريه، ممن كانوا يعدون هذا النقد، بما فيه من خروج على بعض تعاليم العهد القديم، منطويا على مساس بتعاليم الإنجيل بأسره. وهكذا يلاحظ «لامبرت دي ڨلتهويزن» في الرسالة رقم 42 الموجهة إلى اسپينوزا، أن هذا الأخير أنكر فكرة اختيار اليهود أو تفضيلهم على بقية الأمم، وأكد أن ممارسة الفضائل الأخلاقية أجدى من ممارسة شعائر العقيدة اليهودية ذاتها. ويلوم صاحب الرسالة اسپينوزا لأنه جعل أمم الأرض كلها سواء، وأفراد البشر جميعا متماثلين، في القدرة على فعل الخير والتحلي بالفضائل - وهي كلها أفكار تخالف تعاليم العهد القديم كما فهمها اليهود مخالفة أساسية.

ومن المؤكد أن اسپينوزا قد عبر، في نصوص متعددة، عن انتقاده لفكرة «الشعب المختار» هذه بكل وضوح، ولكن من المؤسف أن الشراح اليهود الذين حرصوا على الربط بين فلسفته وبين التراث اليهودي، لم يتعرضوا لهذه النصوص قط، بل تجاهلوها كما لو كانت لا تنتمي إلى كتابات فيلسوفنا هذا على الإطلاق، ولنتصور ماذا يمكن أن يقوله هؤلاء الشراح في نص صريح كهذا: «إن السعادة والبركة الحقيقية لكل شخص إنما تكون فقط في تمتعه بما هو خير، لا في مباهاته بأنه هو وحده الذي يتمتع به، دون كل من عداه. أما ذلك الذي يعتقد أنه أكثر من غيره سعادة لأنه يتمتع بنعم يفتقر إليها الآخرون، أو لأنه أكثر غبطة أو أسعد حظا من أقرانه، فإنه جاهل بطبيعة السعادة والبركة الحقة، ولا يمكن أن يكون السرور الذي يحس به إلا صبيانيا، أو حسودا خبيثا. مثال ذلك أن سعادة الإنسان الحقة لا تكون إلا في الحكمة ومعرفة الحقيقة، وهي لا تكون أبدا في شعوره بأنه أحكم من الآخرين، أو بأن الآخرين يفتقرون إلى مثل هذه المعرفة؛ فمثل هذه الأمور لا تزيد من حكمته أو سعادته الحقة؛ وعلى ذلك فإن كل من يغتبط لأسباب كهذه، إنما يغتبط لتعاسة الآخرين، وبذلك يكون خبيثا وشريرا لا يعرف السعادة الحقة ولا طمأنينة الحياة الصحيحة.»

81

هذه الكلمات الرائعة، وردت في فصل يتناول موضوع اقتصار النبوة أو عدم اقتصارها على العبرانيين. ومعناها الواضح هو أنه حتى لو كان اليهود ممتازين عن غيرهم بحق ، فإن تباهيهم بهذا الامتياز يكفي لجعلهم أشرارا؛ إذ إن المرء يسعد بتمتعه بالخير، لا بإدراكه أن الآخرين محرومون منه. فهنا نقد أساسي لفكرة الشعب المختار، مبني على القول بأن الفكرة ذاتها ليست مما تشرف به أية أمة أو يفخر به أي فرد يعرف معنى الأخلاقية؛ إذ إنها تنطوي على مقارنة فيها حط من شأن الآخرين، وليس الحط من شأن الآخرين من شيم الفضلاء حقا. هذا فضلا عما تتضمنه الفكرة من أنانية واضحة، تظهر في الاغتباط بافتقار الآخرين إلى السعادة التي يتمتع بها هذا الشعب ذاته، والأنانية صفة بعيدة كل البعد عن الفضيلة الحقة، وبعبارة أخرى: ففكرة «الشعب المختار» فكرة مناقضة لذاتها؛ لأن من بلغ أسمى درجات الفضيلة لن يجد لذة في تأكيد تميزه عن الآخرين، ولأن مجرد النظر إلى الآخرين على أي نحو ينطوي على الحط من شأنهم معناه أنك لم تعد كامل الفضيلة، ولم تعد «مختارا».

أما أولئك الذين احتفلوا في إسرائيل - كما ذكرنا من قبل - بمرور ثلاثمائة عام على طرد اليهود لاسپينوزا، فأرادوا رد اعتباره بتشييد نصب كتبوا عليه «أهلك!» - فسوف يجدون في كتابات اسپينوزا نصوصا عديدة نستطيع أن نستدل منها بكل وضوح على رأيه في الدولة اليهودية القديمة، وبالتالي في الدولة الحديثة التي أسست لكي تكون إحياء للقديمة أو استمرارا لها، فاسپينوزا قد أكد تأكيدا قاطعا أن الدين ينبغي أن ينفصل عن الدولة، وأن الهيئات الدينية ينبغي أن تترك للدولة الكلمة الأخيرة في الشئون الدينية، وأن الأحكام التي يفرضها الله على الناس لا ينبغي أن تصدر إلا من خلال الحكام الزمنيين،

Bog aan la aqoon