3
ففي مثل هذا المذهب تطغى الضرورة المطلقة إلى حد لا يعود معه في وسع المفكر أن يعالج أي موضوع من منظور الإنسان وحده، وهو المنظور الضروري في الأخلاق، ولكن هفدنج يتغلب على هذه الصعوبة بالتفرقة بين وجهة النظر الأزلية ووجهة النظر العملية، والقول إن الحديث في الأخلاق يعالج الطبيعة لا من حيث هي طابعة، بل من حيث هي مطبوعة؛ أي من حيث إنها تتضمن كائنات جزئية ذات سلوك عملي متناه.
ومع ذلك فإذا كان من الصعب، من وجهة النظر هذه، الاهتداء إلى مكان للأخلاق في مذهب ينظر إلى الوجود من وجهه الأزلي، فإن من الممكن، من وجهة نظر أخرى، القول إن الأخلاق هي الموضوع الأساسي في تلك الفلسفة، وليس لأحد أن يدهش على الإطلاق لأن اسپينوزا أطلق على كتابه الرئيسي اسم «الأخلاق» في الوقت الذي عالج فيه - في بابيه الأولين على الأقل - موضوعات ميتافيزيقية خالصة؛ ذلك لأن الحد الفاصل بين البحث في الطبيعة من وجهها الشامل وبين البحث في الإنسان يختفي تماما عند اسپينوزا، والدلالة الواضحة لبحثه موضوعات ميتافيزيقية رئيسية في كتاب موضوعه «الأخلاق»، هي أن اسپينوزا قد أحدث تغييرا أساسيا في النظرة الفلسفية إلى مجال الأخلاق؛ فهو يرفض تماما تفرقة الفلاسفة التقليديين بين مجال المعرفة النظرية الخالصة، وهو الميتافيزيقا، ومجال المعرفة العملية، وهو الأخلاق (وهكذا يتضح أن تفرقة «هفدنج» التي أشرنا إليها منذ قليل لا تقدم الإجابة الصحيحة على المشكلة). وهو يؤكد أننا كلما تعمقنا في فهم قوانين الطبيعة الشاملة كنا أقدر على فهم سلوك الإنسان؛ أي إن مجال الأخلاق ليس إلا مركزا تتلاقى فيه إشعاعات المعرفة البشرية في سائر فروعها، ويطبق فيه العلم الإنساني بكل ما حققه من نتائج. وكل ما عليك، لكي تكون قد تعمقت في فهم السلوك البشري والعلاقات المتبادلة بين الناس، أن تكون نظرتك إلى الطبيعة في مجموعها نظرة علمية سليمة لا تمتزج بها خرافات أو ترتكن على كيانات أسطورية، وعندئذ يتضح لك كل شيء يتعلق بالإنسان في ضوئه الصحيح، وفي علاقته بالكل الذي لا يفهم إلا من خلاله.
وكما ينبغي أن يقال، من وجهة النظر هذه، إن الأخلاق معرفة نظرية شأنها شأن العلم العقلي بوجه عام، فمن الممكن أيضا أن يقال: إن العلم ذاته له طابع عملي أخلاقي؛ أي إن العلم والمعرفة يفتحان لنا أبواب الأخلاق، مثلما تمهد الأخلاق الطريق للمعرفة. والمهم في الأمر أنه لا وجود «لأخلاق مجردة» منفصلة عن المجرى العام لعلم البشر؛ وبذلك يتجاوز اسپينوزا، بهذا المعنى أيضا، التفرقة بين الواقع والواجب، وبين العلم النظري والبصيرة العملية، وبين الأخلاق والعلم. (2) الطبيعة والقيم الأخلاقية
نستطيع أن نقول إن المظهر الرئيسي للاختلاف بين وجهة نظر اسپينوزا ووجهة النظر التقليدية إلى الأخلاق هو أن القيم الأخلاقية عنده ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة، بينما كانت القيم الأخلاقية في نظر الفلاسفة التقليديين هي الغاية النهائية لسلوك الطبيعة بأسرها. وهذا الفارق الرئيسي هو الذي يحدد الاختلاف بين وجهة النظر العلمية الصارمة - عند اسپينوزا - وبين وجهة النظر الغائية السائدة من قبله .
فالطبيعة عند اسپينوزا خالية تماما من القيم البشرية: «إنني لا أعزو إلى الطبيعة جمالا ولا نظاما ولا اضطرابا، فليس في وسع المرء أن يقول عن الأشياء إنها جميلة أو قبيحة، منظمة أو مضطربة، إلا من وجهة نظر الخيال.»
4
والخير والشر لا وجود لهما إلا في ذهننا، لا في الطبيعة، وليست لهما أية دلالة ميتافيزيقية، وإنما هما يتعلقان بوجهة نظر البشر فحسب.
5
وبعبارة أخرى: فالخير والشر «لا يدلان على صفة إيجابية في الأشياء منظورا إليها في ذاتها، وإنما هما أحوال للفكر أو موضوعات فكرية نكونها من مقارنة الأشياء بعضها ببعض . وهكذا يمكن أن يكون الشيء الواحد في نفس الآن خيرا وشرا، وسويا إزاء هذا وذاك.»
Bog aan la aqoon