Browne » مثلا يقول: إن هؤلاء اليهود المهاجرين، من بعد كل ما عانوه في مواطنهم الأصلية من اضطهاد على يد الإسبان والبرتغال على الأخص، كانوا حريصين على ألا يقبلوا في صفوفهم أي انشقاق، وكانوا يرون أن كل من ليس معهم فهو عليهم؛ ومن هنا لم يتسامحوا عند ظهور أي خروج على مبادئهم.
4
وهذا تبرير غريب حقا؛ فالمفروض أن الطائفة التي تعاني الاضطهاد تأخذ على عاتقها أن تضع حدا لهذا الاضطهاد، وتبدأ في ذلك بنفسها على الأقل، فتفتح صدرها رحبا للانتقادات الموجهة إليها - ومع ذلك، ألم يتكرر هذا المنطق المعكوس في عصرنا الحديث، حين أوقع اليهود نفس ألوان الاضطهاد التي ذاقوها في الحكم النازي على الأبرياء من عرب فلسطين؟!
وعلى أية حال، فمن الواضح أن تقاليد الطائفة اليهودية في أمستردام كانت من التزمت والجمود إلى حد أثار غضبة كل من اتسم بنزعة تحررية من أبنائها، لا سيما والجو الخارجي في الدولة الهولندية كان يشجع، إلى حد ما، على الانطلاق وحرية الفكر. وهكذا تكررت القصة مع اسپينوزا نفسه، وإن لم تكن اتخذت نفس هذه الصورة العنيفة الدامية في نهايتها.
فقد أدت هذه المؤثرات جميعا، إلى خروجه عن نطاق العزلة القاطعة التي كانت الطائفة اليهودية في أمستردام تفرضها على أفرادها، وإلى ثورة اسپينوزا على تلك الطائفة وخروجه عليها. واتخذت هذه الثورة أولا شكل مناقشات متحررة جريئة، بدأت منذ أيام الدراسة ذاتها، ثم تحولت إلى عدم اكتراث بالطقوس والشعائر اللانهائية العدد التي يتبعها المجتمع اليهودي. وأخذت علامات الثورة والتحدي تزداد ظهورا بالتدريج، إلى أن اتخذت شكلا لا يمكن كهنة اليهود السكوت عليه، فقرروا طرده من الطائفة اليهودية.
5
وإذا صح ما يقوله «كوليروس»، فإن شيوخ هذه الطائفة قد عرضوا عليه مرارا أن يرجع عن «مروقه»، ولكنه لم يلق بالا إليهم، وذهب بهم الأمر إلى حد عرض رشوة عليه، في صورة معاش يتقاضاه بانتظام، على أن يترك دينهم وشأنه، ويبتعد بأفكاره الخطيرة عنه، ولكن اسپينوزا رفض هذا العرض «لأنه لم يكن منافقا، ولم يكن يبحث إلا عن الحقيقة». ويقال أيضا أن الطائفة قد استخدمت سلاحا آخر هو التهديد؛ فقد طعن اسپينوزا ذات مرة بسكين لم يصل إلا إلى ملابسه. وكان من الطبيعي بعد هذا كله أن يطرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية، ويفرض عليه «الحرام» وهو في الرابعة والعشرين من عمره (سنة 1656م).
وكان من الواضح بعد ذلك أن أمستردام لم تعد مكانا مأمونا لاسپينوزا. وهكذا انتقل إلى عدة أماكن ريفية هادئة، أو بلدان صغيرة، ليتفرغ للكتابة ويبتعد في الوقت ذاته عن الجو المحفوف بالخطر في أمستردام. ومن هذه البلاد «رينسبورج
Rhynsborg »، ولاهاي.
في هذه الفترة التي ابتعد فيها اسپينوزا بنفسه عن مخاطر الحياة وسط مجتمع معاد له في أمستردام، كان يرزق من حرفة صناعة العدسات البصرية وصقلها، وهي صناعة أجادها إلى حد بعيد، بدليل أن كبار علماء عصره كانوا يتعاملون معه فيما يحتاجون إليه منها.
Bog aan la aqoon