وجدت نفسي أبحث في تلك الشوارع عن بعض ذكرياتك؛ إذ بحثت ذات مرة عن إشارات في مقالاتك التي كتبتها للصحف والمجلات، في الكتب التي ألفتها بحرفية لخدمة قضايا الآخرين، وليس لشخصك. لكم كانت كتاباتك مسلية وحافلة بالمعلومات حيث كنت على قدر عظيم من المهارة أهلك لتحظى بأسلوب بديع، إلا أنك تراجعت، حتى عن ذلك. سمعت نفسي أتساءل، أهذا كل ما هنالك؟ فيما كنت أنت تستغرق في الضحك وتقول: وهل هناك من مزيد؟ غير أنني لم أقتنع، فظللت وراءك، رغبة مني في أن تشفي ما يجول داخلك.
لو كان علي أن أصفك، كما أراك في سريرتي، لقلت إنك عنيد، وحينئذ كنت ستسارع قائلا بنفاذ صبر إنك كنت متساهلا طوال حياتك. ولكن ليس هذا ما أعنيه؛ فما أقصده أنك عنيد، قاس على نحو مبالغ فيه (جسمانيا وروحيا)، عفيف ولطيف، ولكنك لست شفوقا. أود أن أؤكد على أنك تتمتع بشيء من الشهامة، وأتوقع منك - شأنك شأن الفرسان النبلاء - أن تنتهج سلوكيات عفى عليها الزمن تنم عن التضحية بالنفس، وأيضا عن سلوكيات وحشية مثيرة للإعجاب، تقوم بكل منهما بأسلوب ينم عن انتمائك لمنظمة سرية.
من ناحية أخرى، فإنك كنت ستصف نفسك بالأنيس، الفاسد، الأناني عادة والمحب للمتع. كنت ستنظر إلي من فوق نظارتك كما لو كنت مدرسا دمث الخلق متصلب الرأي أثار أسلوبي المتطرف حنقه. وسيكون علينا حينئذ أن ننظر إلى وقوعي في الحب، بالطريقة التي أحب بها، كما لو كان تهورا ستساعدني على الشفاء منه، اقتراحا ستفرضه علي بما لك من سلطة في مقال من المقالات.
بطبيعة الحال، كنت أعرف منذ البداية أن الحياة بتلك الطريقة أمر بالغ الخطورة؛ فالعلاقات قابلة للانهيار في أي لحظة، وقد انهارت بالفعل، وليس بمقدور أحد كائنا من كان أن يضع يده على مكمن الفشل، شئنا أم أبينا؛ وليس هناك أحد أستطيع أن أشكو له وأبوح إليه. وكالعادة تصل النجدة في آخر لحظة: رسالتي الساخطة الموجزة المعبرة عن يأسي الشديد، ثم رددت علي برسالة اعتذار مفعمة بروح الدعابة تفيض بالرقة إلى حد ما، تقول لي فيها ليس هناك أي خطر. كنت أقف على أرض صلبة طوال الوقت ما لم تتركني وحدي. كما لو أن هذه الحفرة التي وقعت فيها، والمتمثلة في غيابك الدائم، ليست سوى حلم أخوف نفسي به، أو في أسوأ الأحوال مكان لا أملك إلا أن أصرخ منه بصوت عال بما يكفي طلبا للمساعدة، مؤمنة بقدوم المساعدة، وتأتي المساعدة.
وجدت نفسي أقرأ مقالات في المجلات النسائية، تجارب سابقة مرت بها النساء. عندما أستعيد روحي المعنوية، أتخطى تلك القصص، أما عندما تنخفض معنوياتي، فإنني أقرؤها لعلي أجد فيها سلواي؛ لأن اكتشاف المرء أنه لا يحمل الكرب وحده أمر يبعث على الارتياح؛ فالمصيبة إذا عمت هانت. كما أن قصص النساء الأخريات تبين كيف أنهن استطعن التعافي وتقدم تشجيعا لغيرهن. فهذه مارثا تي ظلت عشيقة لرجل مدة خمس سنوات، خدعها وسخر منها وأسرها، حيث تقول: لقد وقعت في حبه؛ لأنه بدا لي لطيفا للغاية. وهذه إميلي آر التي لم يكن حبيبها متزوجا كما ادعى. كثيرا وأنا أتحدث إلى كل من الرجال والنساء أسمع نفسي أتابع هذا الموضوع بطريقة مضحكة تدعو للرثاء؛ كيف تبني النساء قصورا على أساسات واهية تكاد لا تتحمل أكثر من عش صغير، وكيف أن النساء يخدعن أنفسهن ويعانين دون جدوى، ويضعن أنفسهن موضع استغلال بسبب الفراغ في حياتهن ولخلل ما فيهن، وإن كان خللا غير معروف ويمكن علاجه في الوقت ذاته! وغير ذلك الكثير والكثير مما يعلمه الجميع في هذه الأيام وباتوا يحفظونه عن ظهر قلب كأغنية خفيفة، وفي الوقت نفسه صار قلبي مكسورا كقلب تحكي أغنية عنه، ليظل قلبا جافا ومشققا مثل أرض قاحلة تنتشر بها الأخاديد. أبكي مع مارثا تي وإميلي آر وأتساءل ما الطرق التي استطاعتا اتباعها لعلاج آلامهما؛ هل عن طريق تعلم صنع المكرمية؟ أم بالتنفس العميق؟ ذات مرة قالت لي إحدى صديقاتي - صديقة بالطبع لا صديق - إنه بما أن الألم لا يلحق بالمرء إلا إذا نظر إلى الوراء في الماضي أو إلى الأمام في المستقبل فقد استطاعت القضاء على المشكلة برمتها عبر عيش كل لحظة بلحظتها؛ فكل لحظة، على حد قولها، مفعمة بالصمت المطبق. وقد جربت هذه الطريقة، ولسوف أجرب أي شيء من شأنه أن يقلل من معاناتي تلك، ولكنني لا أفهم كيف تؤتي ثمارها.
اشتريت خريطة، واستطعت العثور على الشارع الذي تقطن فيه والمربع السكني الذي يقع به منزلك، ولم يكن ببعيد للغاية عن شقتي، حيث كان على بعد عشرة مربعات سكنية أو نحو ذلك سيرا على الأقدام. لم أذهب هناك بعد، وإنما مشيت مسافة مربع أو مربعين في اتجاهه ثم عدت أدراجي. إنه منزل لم تكن لتريني إياه مطلقا (الأماكن التي أعيش بها على العكس تماما؛ حيث أزينها وأجملها على أحسن وجه عند مجيئك لزيارتي) وها أنا الآن بمقدوري رؤية منزلك لو أردت. يمكنني أن أسير على الجهة المقابلة الأخرى من الشارع متجاوزة إياه وقلبي يخفق غير قادرة إلا على استراق النظر إليه مرة أو مرتين، ثم أصبحت أكثر جرأة فاستطعت المشي ببطء. الغسق هو وقتي المفضل للتسكع عن قرب من النوافذ المفتوحة، لاستراق السمع للموسيقى أو للأصوات. تخيل هذا حقيقيا، منزلا حقيقيا، حيث يغسل الناس الأطباق ويغطون في النوم. وفي الليل، إن لم تسدل زوجتك الستائر، يمكنني التلصص على غرفتك. هل تلك الصور من اختيارك، أم من اختيارها؟ لا. كلاكما. لم يسبب لي ما اكتشفته سوى الألم المعتاد.
ذات مرة قرأت قصة، قصة واقعية، في مجلة - قد تكون واحدة من المجلات التي عملت بها - عن امرأة فقدت بنتيها الصغيرتين في حادث سيارة، وفي كل يوم عندما يقفل الأطفال الآخرون راجعين من المدرسة، كانت تخرج وتمشي على طول الشوارع كما لو أنها تتوقع مقابلة بنتيها. لكنها لم تذهب قط إلى المدرسة، لم تنظر قط في فصولهما الفارغة، لم تستطع قط أن تعرض نفسها لذلك.
ذهبت إلى مكتبة زوجتك، وهذا هو ما يمكنني القيام به. لم أكن أعرف اسم المكتبة فبحثت عن المكتبات في دليل الهاتف، وأخيرا وجدت مكتبة باسم «باربرا بوك مارت»، لا بد أن تلك هي مكتبتها. ومن اسمها توقعت شيئا بسيطا وعتيق الطراز، بيد أنني دهشت حينما وجدتها مكتبة كبيرة جدا، فاخرة، مزدحمة مثل سائر المكتبات الكبيرة. لم تكن هناك حلي وزخارف القرون الوسطى أو لمسات العصر التيودوري، لا زخارف من أي نوع؛ فهي أشبه بمشروع ثابت يعمل على مدار السنة، دون الحاجة إلى التأنق لجذب السياح.
عرفتها لحظة أن وقعت عليها عيناي، مع أنها تغيرت؛ إذ اكتسى شعرها باللون الرمادي، صار رماديا أكثر من شعري، وعقصته على هيئة كعكة. ملامحها أقل حدة عما كانت عليه، لا تضع مساحيق تجميل، شاحبة الجلد، غير أنها لا تزال تحتفظ بمسحة من الجمال والجاذبية، إلى جانب أسلوبها السريع المضحك سريع الانفعال. كانت ترتدي ثوبا فضفاضا أرجوانيا فاتحا له أربطة موشاة بالتطريزات الهندية. كانت حركتها متصلبة، بعد أن كان عليها تعلم المشي من جديد عقب إزالة الغضروف في إحدى ركبتيها. لقد صارت أثقل وزنا، كما قلت؛ إنها امرأة في منتصف العمر ممتلئة الجسم.
جاءت من مؤخرة المكتبة تحمل كتابين من الكتب الفنية الكبيرة، ثم ذهبت وراء مكتبها ووضعتهما على أحد الأرفف، وتحدثت إلى البائعة كما لو أنها تكمل محادثة كانت قد بدأتها في وقت سابق: «حسنا، أنا لا أعرف كيف ... الفاتورة ... هاتفيهم وأخبريهم أننا لا نتعامل هنا بتلك الطريقة ... يجب أن نعيد البضاعة اللعينة كلها.»
Bog aan la aqoon