دوت الطائرات فوق رءوسنا في سماء المنطقة، في بعض الأحيان لم أستطع سماع ما قلته، حتى عندما كان وجهك ملامسا لوجهي، ولم أستطع أن أطلب منك تكرار ما قلته؛ إذ كنت سأشعر بسخافة تلك الفكرة. وعلى أي حال فإن مثل تلك الأشياء غير قابل للتكرار في العادة. ولكن ماذا لو سألتني سؤالا، ومع عدم سماعك جوابا مني لم تقدر أن تعيد علي السؤال؟ عذبني هذا الاحتمال كثيرا في وقت لاحق، عندما أردت أن أعطيك كل الإجابات التي كنت تأملها.
ارتعشنا معا في آن واحد، واستطعنا السيطرة على أنفسنا بالكاد؛ إذ كان يغمرنا - نحن الاثنين - شعور بالامتنان والدهشة، طوفان من الحظ والسعادة غير المستحقة، غير المشروطة، وغير المصدقة تقريبا. توقفت الدموع في أعيننا، هذا شيء لا يمكن إنكاره. نعم.
لو كنت رجلا التقيته ذلك اليوم أو في ذلك الوقت من حياتي، أكنت سأحبك؟ ليس كثيرا. لا أعتقد ذلك. ليس كثيرا. لقد أحببتك لأنك تربطني بماضي، بشبابي وأنا أدفع عربة الأطفال على طول طرقات الحرم الجامعي، وأنا بريئة دون أي جريرة اقترفتها. لو كان بمقدوري إذكاء شرارة الحب حينذاك وحملها معي الآن، لكنت بددت من حياتي أقل مما أعتقد، أقل كثيرا مما أعتقد. إن حياتي لم تنهر تماما، بل ضاعت بين السكك والدروب. •••
ثم قررت الرحيل في الأول من مايو، وبذلك يكون أمامي ما يقرب من الشهرين دون أي مسئوليات قبل عودة الأطفال، وقبل بدء مدارس الصيف. وأطير إلى المدينة التي كنت أرسل منها رسائلي طوال هذا الوقت، رسائلي الفرحة، رسائلي الحافلة بالثرثرة والأسرار الخاصة، رسائلي القلقة والمتوسلة، التي كنت سأواصل إرسالها لو أنني لم أكن لماحة بما يكفي لأن ألاحظ نبأ وفاتك.
إنها المدينة التي عشت أنت فيها، والتي وصفتها لي في تهكم وإن كان عن رضا عنها في رسائلك. تلك المدينة التي تعج بالعجائز وبالسائحين الحيارى؛ كلا، بل العجائز، «مثلي»، على حد وصفك، مدعيا كالعادة أنك أكبر من سنك الحقيقي. لطالما أحببت فعل ذلك، أي التظاهر بالإرهاق والكسل، وإظهار لامبالاتك. وقد رأيت أن إخبارك بالحقيقة فيه شيء من التصنع. الشيء الذي لم أستطع تصديقه، الذي لم يكن لدي من الخيال ما يكفي لتصديقه، هو أن ذلك قد يكون حقيقيا؛ فقد أخبرتني ذات مرة أنك لا تهتم على الإطلاق بموتك في القريب العاجل أو امتداد العمر بك خمسا وعشرين سنة قادمة. مجرد تجديف من عاشق ولهان. أخبرتني أنك لا تفكر في السعادة، وأن العالم كله لا يساوي عندك شيئا. كنت أرى أن مثل تلك الآراء إنما تنم عن غطرسة بينة، لا سيما وأنها تصدر عن رجل مسن مثلك وكأنك في ريعان شبابك، بيد أنني لم أكن أرغب في إقلاق نفسي لفهم رجل كانت هذه التصريحات بالنسبة له حقيقة مؤكدة، رجل لديه قدر من الطاقة المستهلكة أو المنسية كليا. مع أنني قد توقفت عن صبغ شعري وحسبت أنني تعلمت أن أعيش بمستوى بسيط من التوقعات، إلا أنني كنت أؤمل فيك كثيرا، آمالا كبارا. لقد رفضت رفضا قاطعا، وما زلت أرفض، أن أراك كما ترى نفسك فيما بدا لي.
كتبت لي ذات مرة، قائلا:
كلما فكرت فيك شعرت أنك تغمرينني بفيض من الدفء والأحاسيس، ولما كنت إنسانا كغيري من البشر فقد خشيت أن أغرق في أعماق فيضانك.
فكتبت ردا عليك أنني مجرد نهير صغير يمكنك خوضه بكل بسهولة. وعلى العموم أنت أدرى.
لكم حاولت أن أفتنك وأضللك، حتى ذلك الحين، سواء في رسائلي أو عندما التقينا معا! أصبح نصف اهتماماتي في الحب منصب على كيفية إخفاء الحب، جعله غير ضار ومبهجا. ويا لها من تمثيلية مهينة! أما أنت فكنت تبتسم بطريقة معينة، طريقة لطيفة: أعتقد أنك كنت خجلا للغاية من أجلي.
وجدت بناية سكنية على مقربة من البحر، يرجع تاريخها إلى العشرينيات فيما أعتقد، مبنى مطلي بالجص الأصفر الكريمي، ذو نوافذ متهالكة، تعلو بابه ميدالية خالية من النقوش والكتابة ومخطوطة يصعب تفسير رموزها. كثير من العجائز، كما قلت لي، يمشون في ضوء البحر المتلألئ. خرجت إلى الشوارع ومشيت في كل مكان. لا أريد تجشم عناء الذهاب إلى المقبرة؛ فأنا لا أعرف في أي مقبرة أنت مدفون، على أي حال. مشيت على الأرصفة التي ربما مشيت أنت عليها ذات يوم وأخذت أنظر إلى الأشياء التي نظرت إليها بالتأكيد، والنوافذ التي ارتسم انعكاس صورتك عليها قد عكست صورتي كذلك عليها. إنها لعبة. أجد هذه المدينة مختلفة تماما عن المدن التي اعتدتها؛ فشوارعها شديدة الانحدار، وبيوتها المطلية بالجص الباهت، الكثير منها مسطح الأسطح ومبني على ذلك الطراز الغريب الذي يشبه طراز محطات البنزين والمسمى قبل الحرب العالمية الثانية بالطراز «الحديث». أما نوافذ الزينة المستطيلة فهي من الطوب الزجاجي السميك. في بعض الأحيان تجد سقفا مبنيا على الطراز الإسباني، أو بوابات أو أرضيات لا تتناسب مع ما حولها. الحدائق الشهيرة التي تمتاز بزهور الوردية والأزالية والكوبية بألوانها الحمراء والبرتقالية والأرجوانية التي تبهر العيون، وزهور التيوليب الكبيرة مثل الكئوس تتباهى في جمال لانهائي. أما المحال التجارية فهي غريبة جدا بالنسبة لأي شخص قادم من مدينة صناعية أو جامعية، بالرغم من وجود الملابس المبهرجة بمراكز التسوق، غريبة لشخص اعتاد قدرا من الاحتشام والمهنية: محال الآيس كريم المواكبة للقرن العشرين، وبضائع الغرب الجامح الرياضية، وأزياء هاواي الفضفاضة المزينة بأشجار النخيل، إضافة إلى مقاهي تيودور التي تزدان أسقفها بالجملونات المستدقة، والصنادل ذات السيور في متاجر أشبه بالكهوف تصدر منها أصوات مسجلة لضوضاء الغابة. إلى جانب محال السكاكر المصممة واجهتها على شكل قلاع صغيرة، وينتشر هذا الطراز التنكري ويتنوع إلى حد الضجر منه. ذات يوم ذهبت إلى السوبر ماركت لشراء بعض الخبز والبرتقال فوجدت موظف تحصيل النقدية فتاة ترتدي كيسا من الخيش ووجهها ملطخ بالطين وطلاء أحمر، كما أنها تضع عظمة بلاستيكية مغروسة بشعرها. كانوا يسعون إلى ترويج الزبيب واللحم البقري الأسترالي، لكنها ابتسمت في وجهي ابتسامة إنسانية تشي بالضجر من بين الطين والطلاء، مما طمأنني بأن هناك شخصا في أغلب هذه الأماكن يمكنه الشعور بذلك.
Bog aan la aqoon