57

الحب ليس شيئا لا مناص منه؛ فالاختيار جزء منه. كل ما هنالك أنه من الصعب معرفة متى يقع الاختيار ولا متى يصبح لا رجعة فيه، حتى إن بدا حبا طائشا. فما من إشارات تحذيرية تسبق ذلك. أتذكر جلوسي معك على الغداء وحينما قلت لي: «أحبك. أحبك الآن.» عندها تجاهلتك وأنا أنظر لنفسي في مرآة المطعم وشعرت بالإحراج منك. فكرت: يعلم الله لم تتصنع الشهامة؛ ولم آخذ كلامك على مجمل الجد، وفكرت في أنك في لحظة ما ستنظر إلي وترى أنك قلت هذا للمرأة الخطأ، لامرأة فقدت كل مقومات الجمال وباتت لا تصلح لتلك الصفات؛ فقد طرحت من ذهني منذ وقت طويل علاقات الحب والقصص العصيبة التي يمكن أن تتقاطع مع سير حياتي الطبيعي. أقلعت عن استخدام أصباغ الشعر السوداء ولم أعد أضع على وجهي خلطات شد البشرة مثل بياض البيض أو الشوفان المخلوط بالعسل أو كريمات الهرمونات، ولا أحمر الشفاه أو أي شيء من هذا القبيل.

ثم فهمت أنك كنت تعني ما قلته، وبدا لي أكثر من أي وقت سابق أنك مخطئ بالتأكيد.

فسألتك: «أأنت متأكد من أنك لا تقصد شخصا آخر؟»

فأجبت : «لم تتدهور حالتي العقلية إلى هذا الحد.»

قبل هذا كنا نتحدث في سهولة، وقد سألت عن زوجتك. «لم تعد تمارس الرقص بسبب عملية جراحية في ركبتها.» «لا بد أن توقفها عن النشاط والحركة كان صعبا عليها.» «إنها مشغولة الآن؛ فلديها مكتبة.»

سألتني عن دوجلاس وأخبرتك أننا تطلقنا. أخبرتك أن الطفلين رحلا بعيدا عني، كلاهما رحلا هذا العام وللمرة الأولى؛ فأخبرتني أنك ليس لديك أطفال. كنت أنا ثملة قليلا حتى إنني أخبرتك كيف أن دوجلاس في العامين الأخيرين كان يكلم نفسه طوال الوقت، وأنني كنت أختبئ خلف الستائر وأشاهده يكلم نفسه ويقهقه ضاحكا، ويلوي قسمات وجهه لصنع تعبيرات تنم عن التقدير أو النفور وهو يجزز العشب. والأنكى من كل ذلك حديثه مع نفسه الذي ينهمك فيه بكل جوارحه أثناء حلاقة ذقنه، مع ما تفعله ماكينة الحلاقة الكهربية من حجب صوته والتشويش عليه. وقد أخبرتك أنني أدركت أخيرا أنني لا أريد معرفة ما يقول.

أقلعت طائرتي في الساعة الرابعة والنصف، في حين اصطحبتني أنت بسيارتك من المدينة إلى المطار. لم أشعر بالحزن لفكرة تركك وعدم رؤيتك مرة أخرى، مع أنني كنت جد سعيدة بالركوب بجانبك في السيارة. كنا في شهر نوفمبر وسرعان ما أصبحت السماء ملبدة بالغيوم بعد الساعة الثالثة فأضأت مصابيح السيارة. «أتعلمين، يمكنك استقلال الطائرة التالية.» «لا أعلم.» «يمكنك المجيء معي إلى الفندق والاتصال بالمطار لإلغاء الحجز، والحجز في الرحلة التالية.» «لا أعرف. كلا، لا أعتقد أنني أستطيع فعل ذلك، فأنا متعبة للغاية.» «أنا لا ألح عليك كثيرا.» «كلا.» كان كل منا يمسك يد الآخر طوال الطريق في السيارة. خلصت يدي وأومأت بإشارة تعني أنني متعبة من شيء آخر - تجربة مررت بها؟ - وأعدتها بيسر مرة أخرى. لم أكن متأكدة أنا نفسي مما أعنيه، ولكنني توقعت أنك ستفهم، وكنت عند حسن ظني.

استدرنا بالسيارة متجهين إلى طريق سريع شمال المدينة؛ وحينما سلكنا طريقا جانبيا منه اتجهنا غربا. كانت خطوط الأفق بين الغيوم تتلون باللون الوردي الناري. بدت أضواء السيارات وكأنها تشكل نهرا جاريا، ميلا بعد ميل. كان كل شيء أشبه برؤية العالم - رؤية غير ثابتة هادئة ومطمئنة تماما - الرؤية التي اعتدتها وأنا في حالة سكر. قلت لنفسي، ولم لا؟ جاءني خاطر يحثني على الثقة فيك، الطفو فوق اللحظة الحاضرة، الأمر الذي قد يمتد إلى ما لا نهاية. لم أكن ثملة. كنت ثملة على الغداء، ولكن لم أعد كذلك. «لم لا؟» «لم لا، ماذا؟» «لم لا نذهب إلى فندق ونتصل بالمطار لإلغاء الحجز والحجز في رحلة تالية؟»

قلت لي حينئذ: «هذا ما رجوته منك.»

هل تعتقد أن تلك هي لحظة الاختيار، لحظة أن رأيت السماء وأضواء السيارات؟ لم تبد لحظة جادة بأي حال من الأحوال. كان الفندق/النزل مبنيا بحجارة بيضاء، وكانت الجدران في الداخل كما في الخارج تماما، حتى إن الستائر والسجاجيد الموحية بالثراء والأثاث الثقيل المقلد ذا الطراز الإسباني كانت تبدو على نحو لا ذوق فيه ينم عن التنافر، وكأن الحجرات مآو مؤقتة جرداء. كانت الصورة التي يمكننا رؤيتها ونحن بالسرير تظهر قوارب برتقالية، ومباني قاتمة وأخرى برتقالية تنعكس على صفحة الماء الزرقاء الداكنة. وحكيت لي قصة الرجل الذي اشتهر بالتخصص في رسم الصور للفنادق، فكان يرسم القوارب وطيور البشروش وصور العراة الذين لفحتهم الشمس، لا أكثر ولا أقل. وقلت لي إنه جنى الكثير من المال من ذلك العمل.

Bog aan la aqoon