وفي طيات تلك الإقامة توفق أحمد باشا كدك والوالي الأمير مصطفى إلى تسكين ثورة الأناضول التي أزكى نارها القرمانيون بالاتفاق مع جمهور البندقية، وأصبحت قرمان كلها للعثمانيين بلا منازع ولا معارض.
وفي مدة تلك الإقامة أيضا أرسل روادا على الجرمانيين الذين لم يدخلوا في حوزته، وأقام هؤلاء في قلعة على نهر صاوا يشنون الغارة على جرمانيا والمجر مرة بعد أخرى مدة عشر سنوات، ويخربون ما تصل إليه أيديهم.
ومن أعمال تلك الإقامة أيضا إرسال سليمان باشا خادم على أشقودرة الواقعة في الحد النهائي من غربي الروملي، والتي كانت في يد البندقيين إذ ذاك، وإبحار أحمد باشا كدك في أسطول ضخم على قريم لضبط سواحل البحر الأسود الشمالية، وقد سبق ضبط السواحل الجنوبية منه؛ وذلك ليتخذه ميناء أمينا ووازعا مهما لأسطوله.
وقد افتتح المشار إليه مباشرة كفه وسواحل أزاق التابعتين للجنويين في مدة قصيرة، واستمال خانات القريم بقايا الحكومة الجنكيزية الشهيرة وعقد عليهم لواء الولاء، ومع تلك الشهامة والعزم ووصول طلائع جيشه إلى جهات راغوزة لم ينجح في فتح أشقودرة. وبينما هم في ذلك إذ قام آتين متولي أعمال حكومة البغدان بعد وفاة حاكمها السابق يحاول على دفع الخراج السنوي المقرر عليه، فأمر الفاتح سليمان باشا بالكف عن أشقودرة والتوجه على البغدان، وقد سافر بقلب ملؤه الإقدام، وعبر نهر الدانوب على الجلد، إلا أنه لم تتساو عنده كفتا الغيرة والمهارة، وبدا في الحرب بمكان لا يوافقها؛ فغلب على أمره.
وعلى أثر هذا الانكسار وحلول موسم الربيع عقد السلطان النية على السفر إلى الشمال، فقام سفيرا البغدان وبولونيا - التي كانت تابعة لها إذ ذاك - يحاولان إرضاء السلطان وإقناعه بصور شتى، لكنهما لم يفلحا في سعيهما؛ لأن الفاتح كان يطلب إعطاؤه جميع سواحل البحر الأسود ويلح على دفع الخراج المعين، وقد أنكر البغدانيون ذلك واستكبروه أيما استكبار، فاضطر الفاتح إلى متابعة الحرب.
دخلت العساكر العثمانية بلاد بغدان وقد أصبحت قاعا صفصفا؛ لأن آتين خرب البيوت بأيديه وحرق كل القرى والدساكر وسحب الأهلين إلى مواقع الخفاء، فلا زاد ولا مكان يصلح للسكنى، ولولا أن السلطان تحوط لنفسه كجاري عادته وحضرت الذخائر التي أوصى عليها بطريق الدانوب، لقضى العثمانيون جوعا عن بكرة أبيهم.
واستمر الفاتح على عزمه ولم يعبأ بهذه المصاعب المهمة، فبعث طليعة الجيش تطلب العدو، فضلت في الطريق وسلكت مسلكا وعرا، ومن غرائب الاتفاق أن ذلك الطريق أدى بهم إلى الحرج الذي لجأ إليه البغدانيون، وشعر السلطان بذلك فتبع جيشه، وقام آتين لمقاتلته، وأخذت مدافعه التي تربو على الثلاثمائة تصلي العثمانيين نارا حامية، وقد كاد يستولي الرعب والذعر على قلوبهم ويرجعون بصفقة المغبون، لولا أن الفاتح بقوة دهائه وشدة ذكائه حول جنده إلى ملجأ أمين حفظهم فيه من نيران المدافع.
على أن هذا الأمان لم يكن ليشدد عزيمة الجيش، وقد دهش من فرط ما عارضه من مظاهر الحرب الهائلة، فكان الفاتح يلقي الأوامر والجنود لا تحير جوابا ولا تبدي حركة، بل تكاد ألا تتلقاها بالقبول والارتياح.
رأى الفاتح جبن جنوده وخوفهم، وأخذ الغضب منه كل مأخذ، فرماهم بنظر شذر وهو يقول لهم: «أنا كنت أتوسم فيكم جرأة أكبر من هذه.»، وجرد حسامه كأنه يريد أن يشق غبار الحرب ويطاحن العدو بنفسه، وصال على المدافع صولة الأسد الرئبال، فجذب مغناطيس جسارته كثيرا من رجال البلاط الملوكي، ثم الإنكشارية، ثم بقية صفوف الجند، وصاروا يسابقون بعضهم بعضا في حلبة النزال وميدان القراع، حتى دخلوا إلى الحرج وتلاقوا بأعدائهم وحاربوهم بالسلاح الأبيض وجها لوجه، وبالتالي كتب الله لهم النصر على أعدائهم.
وأثناء رجوعه فهم أن المجر انتهزوا فرصة اشتغاله بالحرب وحاولوا ضبط قلعة سمندرة، ولكنهم لم يفلحوا فعادوا بعد أن أقاموا ثلاث قلاع فيما يليها، فأمر بهدمها وجعلت دكا.
Bog aan la aqoon