وقام الفاتح لمقاومة عدوه الألد، فأرسل الجيش مع محمود باشا وركب هو الأسطول ليختبر نفسه لأول مرة في الأسفار البحرية، ومن غرائب الاتفاق أن هذه الحرب البحرية كانت أول ما نجح بها العثمانيون، كأنها تيمنت بمقدم السلطان.
سافر السلطان إلى مايلي ودين، وبدد القلاع الكائنة على ضفتي الدانوب شذر مذر، واجتمع بجيشه وأخذ يقتص أثر العدو ويتتبع خطواته.
وكان ولار على شدة ظلمه وغشومه يعرف الخدع الحربية حق المعرفة، فتوغل وجماعته في الحراج، وكمنوا يتوقعون بالعثمانيين شرا.
وفي إحدى الليالي التي حلك بها الظلام وساد فيها السكون، هجم على الجيش العثماني وكاد يصل إلى فسطاط السلطان ويصيبه بسوء، لولا أن جنودنا التي كانت تعلم أوروبا وآسيا معنى الجندية وتتلو على العالم المتمدن دروس الوطنية قاومته أشد مقاومة، وتأثرته ميمنة الجيش حتى أحرجته على الخروج من حدود الأفلاق خاسرا، وقد توفق بدهائه من الهزيمة ونجا بنفسه لائذا إلى بلاد المجر.
وكان السلطان يقدر حاجيات مملكته، فلم يرد أن يزيد عليها بلادا خارجة عن تخومها الطبيعية، فتكرم بالأفلاق على رادول أخي ولار المذكور، ولما رأى أن الجو خلا له وما بقي أمامه رقيب ينازعه عزم على ضبط جزيرة ليمنوس؛ لأنها على مقربة من بلاده، وما فتئ قرصانها يتعرضون للسواحل مرة بعد أخرى، فخطط الخطط الحربية وسلمها للصدر الأعظم محمود باشا وأرسله أميرا على الأسطول، وعاد السلطان إلى إستانبول، وما لبث الصدر أن ضبط الجزيرة بوجه سلمي.
لم يكن من دأب الفاتح التخلي عن أسفاره الحربية، ولكنه رجع هذه المرة حبا بتنسيق البحرية وإكمال نواقصها، حفظا للراية العثمانية فيما عسى يحدث بينه وبين جمهورية البندقية، ولاحظ الأشغال بذاته، ومن جملة ما قام به استحكامات سد البحر، وجناق قلعة «الدردنيل» على ضفتي البحر المتوسط، وما زال فن الحرب الآن يعتد بها ويعدها بمكانة قصوى من الأهمية، مما يشهد للفاتح بسمو المدارك وكبر العقل في الفنون الحربية أيضا.
كنا ألمعنا قبلا أن السلطان لم يوفق أثناء حصار القسطنطينية بتصويب مراميه من جهات قاسم باشا إلى الجهة المقابلة، وأنه اضطر لتسيير السفن على وجه الأرض من بشكطاش إلى القرن الذهبي، وتكلف ذلك التكلف الهائل الذي أزهق الأرواح رغبة في الوصول إلى أمنيته، أما هذه المرة فقد نجح نجاحا مبينا بإنشاء مدافع تقذف القذائف من الجانبين إلى مركز وسط، وتسقط على هدفها بسهولة.
فرغ الفاتح من هذا العمل الهام، وما كاد يأخذ لنفسه طرفا من الراحة، إلا وقام ملك البوسنة يعارض بدفع الخراج المقرر عليه، زاعما أن قلعة سمندرة التي سلمها عن طيبة خاطر تقوم مقام الخراج. وكانت بوسنة حدا طبيعيا لبلاد الروملي، وضبطها ضروريا لحياة المملكة العثمانية، وقد سنحت هذه الفرصة الثمينة التي لا يجوز فواتها، فجند السلطان جيشا كبيرا يحوي مائة وخمسين ألفا وقاده بذاته.
وصل الفاتح أسكوب وعلم بها أن ملك البوسنة تحصن في إحدى القلاع، فأرسل محمود باشا في الطليعة، وتولى هو الجيش الاحتياطي يقوم بأوده بسرعة خارقة ومهارة فائقة، فلم تمض بضعة أسابيع حتى سطا على ملك بوسنيا بأسره وأسر ملكها، وما وقف عند ذلك، بل أرسل الصدر بجيشه إلى الهرسك ينشد طريقا ومخرجا بحريا، ونجح الصدر في مهمته الثانية.
وبعد كل هذا أشهرت حكومة البندقية الحرب على الدولة، على أثر ظهور حادث بسيط بين أمراء الحدود بسبب أسير فر من عند والي أثينا واستأمن بنبيل بندقي، وقد عارض النبيل في إعادته وتسليمه أشد المعارضة، حتى أفضى ذلك إلى التخاصم، والبندقية في ذلك الزمان كإنكلترا اليوم من حيث انتظامها، وانكباب أهلها على الجد والعمل في التجارة والأسفار على قلة نفوسها، وقد أصبحت خزانة أوروبا ومالكة زمام البحر المتوسط، بل ملكة البحار على الإطلاق.
Bog aan la aqoon