وعلم الكلام بعد ملقى من الظلم، متاح له الهضم. فهو أبدا محمول عليه ومبخوس حظه وباب الظلم إليه مفتوح، لا مانع له دونه. والعلم بما فيه من الضرر يخفى على أكثر العقلاء، ويغمض على جمهور الأدباء. وإذا كان ملقى من أكبر العقلاء، ومخذولا عند أكثر الأدباء، فما ظنك بمن كان عقله ضعيفا ونظره قصيرا؟ بل ما ظنك بالظلوم الغادر، والغمر الجاسر؟ فهذا سبيل العوام فيه، وجهل عوام الخواص به، وانحرافهم عنه، وميل الملوك عليه، وعداوة بعض لبعض فيه.
وصناعة الكلام كثيرة الدخلاء والأدعياء، قليلة الخلص والأصفياء والنجابة فيها غريبة، والشروط التي تستحكم بها الصناعة بعيدة سحيقة؛ ولدعي القوم من العجز ما ليس لصحيحهم، ولردي الطبع في صناعة الكلام من ادعاء المعرفة ما ليس للمطبوع عليها منهم، بل لا تكاد تجده إلا مغمورا بالحشوة مقصودا بمخاتل السفلة.
ومن مظالم صناعة الكلام عند أصحاب الصناعات أن أصحاب الحساب والهندسة يزعمون أن سبيل الكلام سبيل اجتهاد الرأي، وسبيل صواب الحدس، وفي طريق التقريب والتمويه، وأنه ليس العلم إلا ما كان طبيعيا واضطراريا لا تأويل له، ولا يحتمل معناه الوجوه المشتركة، ولا يتنازع ألفاظه الحدود المتشابهة. ويزعمون أنه ليس بين علمهم بالشيء الواحد أنه شيء واحد وأنه غير صاحبه فرق في معنى الإتقان والاستبانة، وثلج الصدور والحكم بغاية الثقة.
Bogga 248