Silsilat Al-Adab - Al-Munjid
سلسلة الآداب - المنجد
Noocyada
الانحراف في الأكل وتحريم ما أحل الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: سبق أن تكلمنا -أيها الإخوة- عن موضوع آداب الأكل، وعددنا بعض الآداب مع ذكر بعض الأدلة في ما يتعلق بكل أدبٍ من الآداب، وسنكمل إن شاء الله الكلام عن الموضوع في هذه الليلة، وسبق أن ذكرنا أن الناس يقعون في الطعام في محذورين، وأن الانحراف في مسألة الأكل يحدث من جهتين: الجهة الأولى: الإسراف فيه.
والثانية: تحريم ما أحل الله منه.
وهذا هو الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، أن الناس يقعون في الأكل في انحرافين أو هم على طرفين: الإسراف فيه، وتحريم ما أحل الله منه.
وهناك بعض القصص التي ذكرها الذهبي ﵀ في كتاب: سير أعلام النبلاء التي تبين بعض ما وقع فيه هؤلاء.
قال في ترجمة أحد الزهاد: أنه عمل له خلوةً فبقي خمسين يومًا لا يأكل شيئًا، وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما فما الظن؟ -يعني فما الظن بالامتناع عن الطعام هذه الفترة الطويلة- وقد قال نبينا ﷺ: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع) ثم قلَّ من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطابًا لا وجود له في الخارج -يعني: الذي يجوع هذا الجوع المفرط، فإنه يسمع أشياء لا وجود لها في الحقيقة، لكن من شدة الجوع يتراءى له ويتخيل- فإن كان متمكنًا من العلم والإيمان فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلًا بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده وطمع فيه الشيطان، وادعى أنه وصل إلى مرتبة عالية ونحو ذلك، وبقي على مزلة قدم وربما تزندق وقال: أنا هو، كما يقول: هؤلاء الصوفية، يقول: أنا هو، يعني أنا الله ﷾.
وقال: نعوذ بالله من النفس الأمارة ومن الهوى، ونسأل الله ﷿ أن يحفظ علينا إيماننا.
آمين.
ثم قال في ترجمة رجلٍ آخر من الزهاد قال: صام طائر أربعين يومًا أربعين مرة، فآخر أربعين عملها صام على قشر الدخن؛ فليبسه قرع رأسه واختلط في عقله، قلتُ: - الذهبي يقول- فعل هذه الأربعينات حرامٌ قطعًا، فعقباها موتٌ من الخور أو جنونٌ واختلاط، أو جفافٌ يوجب للمرء سماع خطاب لا وجود له أبدًا في الخارج، فيظن صاحبه أنه خطابٌ من الله ﷾، مع أنه في الحقيقة من الجوع.
وفرقٌ بين هذا وبين ما يحصل من زهد بعض الزهاد، أو أنهم كانوا لا يفرطون في الشبعة، فرق بين هذا المغرق في ترك الطعام، وبين من يترك الشبع ولا يترك الطعام.
ولذلك لما نقل عن الشافعي ﵀، قال أبو عوانة الإسفرائيني: حدثنا ربيع قال: سمعت الشافعي يقول: ما شبعت منذُ ستة عشر سنة إلا مرةً فأدخلت يدي فتقيئتها، يعني: مما وجد عليه من الأذى فيها.
فقول الشافعي: ما شبعتُ منذُ ستة عشر سنة إلا مرة، لا يدل على أنه تارك للطعام، وإنما يدل على أنه كان يقل منه، ولأن الإكثار منه والنهم فيه ربما يسبب الأضرار، وقد مات أحد من ترجم لهم الذهبي ﵀ في السير بسبب أنه كان أكولًا.
قال: كان فلان أكولًا، فقال أحد رفقته لما قدموا مكانًا معينًا: أهدي إليه فالوذج لم ينضج، يعني: لم يكن مطبوخًا طبخًا جيدًا، فقلنا له: يا فلان لا تأكله فإنا نخاف عليك، فلم يعبأ بكلامنا وأكله، فلما استقر في معدته شكى وجع بطنه وانسهل إلى أن وصلنا إلى المدينة ولا نهوض له، فتفاوضنا في أمره، ولم يكن لنا سبيلٌ إلى المقام عليه لأجل الحج، ولم ندر ما نعمل في أمره، فعزم بعضنا على القيام عليه وترك الحج، وبتنا فلم نصبح حتى أوصى ومات فغسلناه ودفناه.
فإذًا: النهم قد يكون أحيانًا سببًا في الموت، وربما مات بعضهم فعلًا من كثرة الطعم انبشم ومات.
وينبغي أن يكون الطعام -كما ذكرنا- من الحلال؛ ولذلك فإن أكل الحلال من أسباب إجابة الدعاء وقد أطعم أبا بكر غلامه طعامًا من كهانة تكهن بها وهو لا يحسن الكهانة، فلما علم أبو بكر قاء ما في بطنه.
وأكل معمر من عند أهله فاكهة، ثم سأل فقيل: هدية من فلانة النواحة، هذه امرأة تعمل بالنياحة وتأخذ أجرة على النياحة، وأهدتهم فاكهة، فلما علم أن الفاكهة من فلانة النواحة قام فتقيأ، وذلك لأنه لا يدخل بطنه إلا الحلال.
وكذلك فإن صاحب الأكل اليسير الحلال لا يحتاج إلى الأطباء، ولا تعرض له كثير من الأمراض التي تعرض للأكولين، عن ابن سيرين أن رجلًا قال لـ ابن عمر: أعمل لك جوارش؟ قال: وما هو؟ قال: شيءٌ إذا كظك الطعام فأصبت منه سهل -إذا صار عندك كظة الطعام وأضر بك وازدحم عليك؛ عملنا لك هذا فسهل- فقال: ما شبعتُ منذُ أربعة أشهر، وما ذاك ألا أكون له واجدًا، ليس لأني لا أجد الطعام، ولكن عهدت قومًا يشبعون مرة ويجوعون مرة، فكان يقتدي بهم رضي الله تعالى عنه.
فإذًا ينبغي أن يكون الإنسان في مسألة الطعام معتدلًا غير مكثرٍ منه ولا مفرطًا فيه ولا يكون في ذات الوقت تاركًا له بالكلية بحيث يضر بصحته وببدنه، وعليه أن يتحرى الحلال، وقد تقدم أن النبي ﷺ كان يجوع فترةً طويلة؛ لأنه كان لا يجد ﵊، ولكنه كان لزهده في الدنيا لا يطلب ما لا يجد وإنما كان ﵊ إن وجده أكله وإلا لم يتطلبه ولم يتكلفه، وعلى الآكل أن ينوي بأكله الاستعانة على طاعة الله تعالى.
9 / 10