الكرامة الثانية:ما أكرمه الله بقوله تعالى في محكم كتابه الكريم: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء}[الزمر:23]، وبقوله تبارك وتعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}[المؤمنون:57-61]، وبقوله تعالى:{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}[الأنفال:2-4]، (وبما) (3) روي أن بلالا أذن الفجر، واستبطأ رسول الله(ص)، فدخل عليه منزله، وقال: يارسول الله، فما أجابه ونظر إليه فإذا هو ساجد، (وناداه) (4) فلم يجبه، (وحرك) (1) قدمه صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجبه، فصاح وا ويلاه، (واويلاه)(2) مات رسول الله، فأغارت ابنته فاطمة -عليها السلام- وقالت: مهلا يا بلال هذه الغشوة التى تصيبه من خشية الله تعالى، فأفاق صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه قطنة غمست في زعفران، (وعرقه ينحدر كالجمان) (3)، فقال:(( يا بلال مر أبا بكر (فليصل) (4) بالناس فإن أعضائي مضطربة))(5)لما ترك (رحمه الله)(6) الدنيا كما مر في أول المختصر، وأقبل على نقل (الكتاب) (7) العزيز فنقله غيبا على أخية يحيى بن محمد الخشخاشي (كما) (8) حكى لي، قال: لما نقلت القرآن الكريم، وكنت أتلوه بالليل، ويخيل لي أني واقف في الهواء، فتارة أتلوه بالعذوبة والشفا، وتارة ما أجزع فيه وأتردد في الآية الواحدة مرارا، (وكان) (9) أولا يرتعش ويصفار، ثم في التشهد ينتفض وتتململ (جنوبه) (10)، ثم تناهى به حتى ينتفض انتفاضا شديدا، ثم يسقط على الأرض مغشيا عليه ، ثم يفيق وقد مج دمه، ثم تناهى به حتى خيف عليه الموت ويقع من قامته على ما وافق من حجر أو مدر أو شاهق أوجدار أوشوك، لأنه لا يستطيع دفعه ولا دفاعه بالمرة الكافية أولا من خوف الله والنار، قال الفقيه الإمام علي بن عبد الله(بن أبي الخير) (11): من أراد أن يقتل (الفقيه)(12) إبراهيم ذكر عنده النار، فاتقوا الله أيها الإخوان فيه، ثم تناهى به حتى يسقط ويقف مغشيا عليه أكثر النهار أولا من الخوف، ثم الحياء من الله تبارك وتعالى- ثم من الإجلال والتعظيم، ثم إذا ذكر سبحانه عنده بما لا يليق بحاله الكريم، فسألناه عن ذلك؟ فقال رحمه الله تعالى(1): كنت أولا أخشى على نفسي أن تزهق وأجد ألم الموت عيانا، ثم إني الآن أجد في سقوطي لذة وقلبي كامل العقل مشغول بالله تعالى، ولقد اجتهدت في سقوطي أن أحرك يدا أو رجلا أو لسانا أو جفن عيني ما أستطيع أبدا، وأما عقلي فبحمد الله محفوظ، (ولا ينتقض)(2) علي طهور، وتناهى به حتى اعتراه الثمول(3)، شاهده مرة بمحضري (أخاه)(4) في الله سعيد بن منصور الحجي على هذه الحالة وأيس منه، فناداه: يا إبراهيم، اذكر ربك فانتعش، وقال: ياسعيد، لم أنساه فأذكره، وكانت هذه الكلمة موقظة له في ذلك الثمول، وكان يسقط في الخلأ والملأ وقد تقدم من بهت من سقوطه في أول المختصر، فهذه أجل الكرامات، وقد روي أنها لا تكون إلا في المصطفين من الأولياء كما حكي عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى(5) أنه مرعلى سوق الشوائين، فنظر إلى الرؤوس المشوية فتلا: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}[المؤمنون:104]، فسقط مغشيا عليه، فحمل وما أفاق الا بعد ثلاثة أيام، وقد قيل: إن القلب إذ صفي ورق (كان) (6) كالماء في الإناء (أدنى) (7) شيء واهراق، روى أبو طالب المكي في كتاب (قوت القلوب) أن للخوف سبع مفائض يفيض إليها من القلب وقد يفيض إلى السحر (وهي) (8) الرية فيذهب الأكل والشرب وينشف الدم، وقد يفيض الجوف إلى الكبد، وقد يفيض من القلب إلى المرارة فيحرقها فيموت العبد ضعفا، وقد يطير الخوف من القلب إلى الدماغ فيحرق العقل، وقد يفيض من القلب فيورث الكمد (اللازم)(9) والحزن الدائم، ويحدث الفكر الطويل والسهر الدائم الذاهب، وهذا من مقامات الأخيار المصطفين، وقد كان في هذه الطبقة جماعة من التابعين والصحابة، كان عمر يغشى عليه فيقع من قيام (فيضطرب) (1) كالبعير، وكذا سعيد بن خثيم(2) ، وكان من زهاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أمراء الأجناد، وقد روي عن حمران بن أعين(1) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ آية في سورة الحاقة فصعق ومات حمران-رحمه الله تعالى- ومن التابعين (منهم) (2): الربيع بن خثيم(3)، وأويس القرني، وزرارة بن أوفى، ونظرائهم، قال أبوطالب: وقد يفيض الخوف من القلب إلى النفس فيحرق الشهوات، ويمحو العادات، ويخمد الطبع، ويطفي شعل الهوى، وهذا أحمد المخاوف(وأعلاها) (4) عند العارفين، والعارف معتدل بين الخوف والرجاء ... إلى آخر كلامه.
Bogga 235