يخلق الله كل شيء ليكون شيئا على الأصل البين الذي خلق عليه، وللأمر الميسر الذي خلق له، وهو صريح واضح من جهتيه؛ فالأشياء في الطبيعة هي ما ظهرت به مشيئة الله، تضر لأنها ضارة، وتنفع لأنها نافعة، ولكن المنافق كأنما خفيت مشيئة الله فيه؛ فهو من ناحية الإنسانية مخلوق للنفع فضر، ومن جهة الحيوانية خلق للضر فنفع، وفي الرذيلة خلق تلوينا للرذيلة، وعند نفسه خلق لأنه خلق! فأنت تعرفه من جهة على قدر ما تنكره من الأخرى، ولو كانت الجهتان متقابلتين؛ فهو دائما في نفاقه مختلف على السر والعلانية، وعلى المذهب والغاية، وعلى المدخل والمخرج، وعلى القول والعمل، ومختلف حتى في كونه مختلفا أو مستقيما!
ولو مددت عينيك في عينيه لرأيته يتخاوص لك بإحداهما،
3
كأنك أبيض من شعاع الشمس، وإن كنت قد خرجت من مصنع التجليد الإلهي في جلد أسود؛ إذ تأبى إحدى عينيه على كل حالة إلا أن تنافق ليظهر النفاق عليها، وهو من الذين يمكرون السيئات؛
4
لينتهوا منها إلى حسناتهم، ويقاربون الذم ليخلصوا منه إلى الحمد، ويسفلون ليرتفعوا كما يبتدئ المقلاع دورته من الأسفل ليرمي بحجره رمية عالية، ومهما انتحلوا من العلل، واختلقوا من المعاذير، وقولهم: إن ذلك سياسة ومخالقة،
5
وظرف وأدب من الذوق؛ فهم لا يأتون كل ذلك إلا لأن كل ذلك - علم الله - هو النفاق.
ويا ليت علم الأخلاق كعلم الجغرافيا؛ إذن لكان له من وجوه المنافقين مصورات ملونة ... ولاضطر العلماء أن يجمعوا من بعض السادة الكبراء مجاميع، ويقيموا لهم معارض! وتلك حقيقة لم يفطن لها علامة القرود الفيلسوف (دارون)، ولو هو فطن لها فكيف له بمجموعة أقبح ما فيها وجوه عظماء الناس؟ •••
إن المنافقين من العامة، وأشباه العامة بجانب المنافقين من الخاصة، وأشباه الخاصة لكالشر يتطاير عن الجمر: إن هو لذع لم يحرق، وإن لم يلذع انطفأ؛ فإن خبثت منه شرارة جهنمية، وتلذعت، ووقعت فيما تستوقده، وردته حريقا، فما يجيء ذلك من كونها شرارة كبيرة، بل من كونها جمرة صغيرة؛ فالشأن إذن في هذا الجمر الذي يتلظى بمادته؛ لأن له مادة استفادها من عناصر الأرض، واجتمع منها غذاء النار فيه، كما يفيد أولئك من المال، والجاه، والعلم، والأدب، وما إليها. وإن شر النفاق ما داخلته أسباب الفضيلة، وشر المنافقين قوم لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق؛ فصاروا فضلاء بشيء جعلوه يشبه الحق!
Bog aan la aqoon