Siddiqa Bint Siddiq
الصديقة بنت الصديق
Noocyada
ومن لوازم هذا النزاع الشديد في مظهر آخر من مظاهر البادية العربية أنه جعل المرأة عاملة نافعة في حياة الأسرة وحياة القبيلة؛ لأن المعيشة الضنك التي كان يعيشها البدوي في صحرائه المجدبة تأبى عليه الترف والبذخ، ولا تتسع لإسراف المدني الذي ينفق على المرأة ولا أرب له عندها غير المتعة والمسرة، ولا عمل لها عنده غير الراحة والزينة. فكانت المرأة العربية - في البادية خاصة - تعمل كل ما تستطيع أن تعمله لخدمة أسرتها وقبيلتها، وتعلم كل ما تستطيع أن تعلمه لإتقان عملها وتجويد خدمتها؛ فكانت ترعى الإبل والشاء، وتمخض اللبن، وتغزل الصوف، وتصنع الخيام، وتضمد الجراح، وتطب لنفسها في شئون الحمل والولادة، وتحذق من هذه الشئون ما تجهله المرأة الحضرية في كثير من أمم العصر الحديث، وتعينها على ذلك حاجتها إلى تطبيب نفسها وقيامها على رعي الأحياء التي تلازمها في غدوها ورواحها وفي صحتها ومرضها وفي حملها وولادتها وفي اختيار الأصلح والأجدى لنسلها ونتاجها.
وقد رويت عن نساء العرب صفات أخرى للحمل والرضاعة تشبه هذه الصفة في جملة معناها، وهي صفات لا يشترط أن تطابق العلم الحديث في جميع تحليلاته وتفصيلاته، بل حسبها على سذاجتها أن تدل على طب معروف في علاج الحمل والولادة والرضاع، وأن الأمر في هذه الشئون لم يكن عند المرأة العربية هملا متروكا للمصادفات، كما يشاهد ذلك في بيئة الكثير من الحضريات المعاصرات. •••
إلا أن الشظف الذي كان يعم الجزيرة العربية ويذكي فيها ذلك النزاع الشديد على الرزق لم يكن خلوا من الجوانب التي يرق فيها ويلطف وتسري منها الرقة واللطف إلى العلاقة بين الرجال والنساء؛ فتنعم المرأة بالرفق الذي يرفع من مكانتها، ويهذب من معاملتها في سائر البيئات الإنسانية لا في الجزيرة العربية وحدها.
وأهم هذه الجوانب جانب النشأة في بيئة الحضارة، وجانب النشأة في بيئة السيادة.
فالحضارة تصقل الطباع، وتهذب حواشي النفوس، وتغني القبائل عن القتال وعن ثورة الغضب للذمار المهدد بالليل والنهار، وأول ما يظهر هذا الصقل والتهذيب في العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأنها العلاقة التي تمتحن بها الكياسة وآداب الخطاب.
والسيادة تعلم السادة أن يعنوا بمكان بناتهم من العزة والرخاء، فلا يسلمونهن لمن ينزل بهن عن منزلة العقائل المبجلات اللواتي يغنين في بيوتهن عن الخدمة المسفة والعيش الذليل.
ولهذا كان سادة العرب يختارون الأزواج لبناتهم، ثم لا يكتفون باختيارهم حتى يشركوهن في الرأي ويدخلوهن في المشورة، ومن أنباء ذلك التي استفاضت في الأدب العربي أن الحارث بن عوف المري قدم على أوس بن حارثة الطائي خاطبا، فدخل أوس على زوجته ودعا ببنته الكبرى، فقال لها: يا بنية! هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني طالبا خاطبا، وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض العهدة، ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي وعليك من ذلك ما فيه.
فصرفها ودعا بابنته الوسطى، وعرض عليها ما عرضه على الكبرى، فقالت: إني خرقاء، وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني!
فلما دعا بأختهما الصغرى قالت: «... ولكنني والله الجميلة وجها، الصناع يدا، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير!»
وهذه الفتاة الصغرى - واسمها بهيسة - هي التي تزوجها الحارث وزفت إليه، فأنكرت منه أنه يدخل عليها في ثياب العرس والحرب قائمة بين عبس وذبيان فلا يشغله عن الطيب والزفاف أن يصلح بينهما ... فأكبر منها زوجها هذه الحكمة، وسعى في الصلح بين الحيين حتى استجيب إليه.
Bog aan la aqoon