وكان يزدجرد قد بعث بابنه بهرام جور إلى الحيرة لينشأ فيها، وحذق بهرام العربية واليونانية وأحاط بشئون العرب والروم خبرا، فلما مات يزدجرد أثر الفرس أن يولوا عليهم كسرى بن أردشير بن سابور ذي الأكتاف؛ لأنه نشأ بينهم حين كان بهرام غريبا عنهم، وسار بهرام يسترد عرشه وأعانه المنذر، فلما اعتلى العرش نصح له المنذر أن يعفو عن خصومه؛ بذلك كسب بهرام قلب الخاصة، ثم كسب قلب الشعب بأعطياته وبتخفيفه من أعباء الضرائب.
وبالغ بهرام جور فيما بدأه من محاربة النصرانية؛ فكان ذلك سببا في نشوب الحرب بين فارس والروم، وأعان المنذر بهرام في هذه الحروب التي انتهت إلى صلح بين الفريقين طال أمده.
كان ملوك العرب من بني غسان بالشام يناصرون الروم في محاربتهم الفرس، كما كان اللخميون يقاتلون الروم حلفاء لجيش فارس، ولعل الحروب اشتدت في هذه الفترة الأخيرة بين الإمبراطوريتين بعد أن زاد العامل الديني أوارها، فمنذ تولى قسطنطين إمبراطورية الروم في أوائل القرن الرابع الميلادي بدأت المسيحية تزدهر، وبدأ أباطرة الروم يعلون من شأنها في كل مكان، وبدأ المبشرون بها ينتشرون في مختلف البلاد، وانتقالهم من الشام إلى العراق وإلى بلاد فارس هو الذي هاج يزدجرد لمناهضة هذا الدين الجديد، وهو الذي جعل بهرام يغلو في محاربته، حتى ينتهي الأمر إلى ذلك الصلح الذي أشرنا إليه.
ماذا كان موقف العرب في العراق وفي الشام من دين الفرس، ومن دين الروم؟ أتأثرت قبائل العراق بالمجوسية فأقبلت عليها، وتأثرت قبائل الشام بالمسيحية فأقبلت عليها؟ أم أعرض هؤلاء وأولئك عن المجوسية والمسيحية جميعا، واحتفظوا بوثنيتهم العربية، وبأصنامهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى؟
للجواب على هذا السؤال قيمة كبرى في البحث الذي نتناوله الآن، فهو يكشف عن اتجاه العقلية العربية وعن ميول العرب الروحية، ويجلو لنا كيف مهدت هذه العقلية وهذه الميول للفتح العربي في ظل الإسلام.
ذكرنا أن العرب تأثروا في العراق وفي الشام بحضارة الفرس وحضارة الروم، فمن عرب العراق من أجادوا الفارسية، وفقهوا تيارات التفكير الفارسي في الفن والأدب والدين، وتبينوا مثنوية ماني وتعاليم زردشت وزندقة مزدك، ولم يكن ذلك عجيبا وقد أتاح لهم رغد العيش وترفه أن يتثقفوا، وأن تبلغ بهم ثقافتهم علم هذا كله وعلم ما اتصل بهم من تفكير اليونان وفلسفتهم، ولذلك علم أهل الحيرة قريشا الزندقة في الجاهلية والكتابة في صدر الإسلام.
4
وكان ذلك شأن عرب الشام في اتصالهم بثقافة الروم وأدبهم ودينهم، بل لعلهم كانوا أرقى عقلية من عرب الحيرة؛ لأنهم أقرب اتصالا بالثقافة اليونانية والمدنية الرومانية.
لم يأخذ عرب العراق بمجوسية الفرس مع اتصالهم بهم وإعجابهم بحضارتهم ولم يأخذ عرب الشام بوثنية الروم أو اليونان ولم يعبدوا آلهتهم، فلما استقرت المسيحية في الإمبراطورية الرومية هوت إليها النفس العربية في الشام والعراق جميعا، فلماذا؟
يذكر بعض المؤرخين أن أول ملك تنصر من بني غسان إنما تنصر لأن إمبراطور الروم لم يكن يرضى عن ولاية غير نصراني في أنحاء الإمبراطورية، وإذا فسر هذا تنصر أمراء العرب فإنه لا يفسر تنصر القبائل، فإن قيل: إن قبائل الشام تنصرت مجاراة لملوكها، فالناس على دين ملوكهم، فقد تنصر من قبائل العراق كثيرون يدينون بالولاء لملك الحيرة، وكان يحارب النصرانية حليفا لفارس، لا بد إذن من دافع آخر أدى بهذه القبائل العربية في العراق لتدين بالنصرانية وأن يكون هذا الدافع متصلا بالعقلية العربية وميولها الروحية.
Bog aan la aqoon