عاد خالد من المدينة إلى البطاح بعد أن أصدر أبو بكر إليه أمره أن يسير لقتال مسيلمة باليمامة؛ وعاد إليها وقد برئت من الردة وآثارها، فأقام بها على رأس جنده، ينتظر من أبي بكر مددا كان يجهزه لمؤازرته، فلما جاءه المدد سار على رأس الجيش كله، يقصد أبلغ المتنبئين في شبه الجزيرة مكرا، وأشدهم خطرا، سار ممتلئا ثقة بنفسه، وإيمانا بالله، وطمأنينة إلى أنه جل شأنه مؤيده وناصره .
وإن ينصركم الله فلا غالب لكم.
الفصل التاسع
غزوة اليمامة
سار خالد بن الوليد من البطاح على رأس عسكره ومعه المدد الذي أمده أبو بكر به، ومقصدهم جميعا اليمامة، يلقون بها مسيلمة بن حبيب متنبئ بني حنيفة، ولم يكن هذا المدد الذي بعث به الصديق دون جيش خالد أيدا أو قوة، فقد تألف من رجال من المهاجرين والأنصار أصحاب رسول الله الذين شهدوا الحرب فشهدت لهم الحرب، ومن القبائل التي عرفت في القتال بالبأس والبطش، ولقد كان ثابت بن قيس والبراء بن مالك على رأس الأنصار، وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب على رأس المهاجرين؛ أما القبائل فكان على كل قبيلة زعيمها. وهل كان لأبي بكر أن يضن على قائد عسكره للقاء مسيلمة بمدد؟! لقد كان يعلم أن أربعين ألفا يقفون إلى جانب هذا المتنبئ في عدة القتال، وأنهم يؤمنون به ويلاقون الموت في سبيله، فإذا هو لم يرمهم بخيرة المسلمين في القيادة، وفي البطولة، وفي خوض المعامع تعرضت سياسته في قتال أهل الردة جميعا للفساد، وأبو بكر أحصف وأعلى رأيا وأبعد نظرا وأقوى إيمانا من أن يعرض الإسلام الناشئ لمثل هذا المصير.
وكان بين هؤلاء الذين أمد بهم أبو بكر خالدا جماعة من القراء حفاظ كتاب الله، كما كان بينهم جماعة ممن شهدوا بدرا، هذا مع أن أبا بكر كان يضن بأهل بدر ويقول: «لا أستعمل أهل بدر، أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم؛ فإن الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر مما ينتصر بهم.» وإنما خرج الصديق على رأيه ذاك فأمد خالدا بالبدريين وبمن شهدوا المواقع في عهد الرسول؛ لأن مسيلمة كان قد استغلظ أمره في اليمامة؛ فكل تضحية في سبيل القضاء عليه دفع عن دين الله، وكل تعاون معه يزيد الثورة في بلاد العرب ضراما، ويزيد موقف المسلم حرجا.
والحق أن ما أدركه المسلمون إلى ما قبل اليمامة من النصر قد كان بالقياس إليها هينا يسيرا، كانت القبائل القريبة من المدينة والتي أرادت محاصرتها غداة بيعة الصديق، لا يدعي أحد فيها النبوة، ولا تطمع في شيء إلا أن تعفى من الزكاة، وقد نجح عدي بن حاتم في صرف القبائل عن طليحة الأسدي، فهان أمره فلم يقو على المقاومة، ولم تكن أم زمل لتقوى عليها بمن اجتمع حولها من فلول تلك القبائل، وكان بنو تميم على خلاف بينهم، وكانت سجاح قد وهنت من عزم مالك بن نويرة، فلم يكن بينه وبين خالد بن الوليد قتال، أما مسيلمة ومن اجتمع حوله باليمامة فكانوا ينكرون أن يكون محمد رسول الله إليهم، وكانوا يرون لأنفسهم ما لقريش من حق، فلهم نبي ورسول، كما لقريش نبي ورسول؛ ولهم في العرب مكانة تضارع مكانة قريش، وبينهم من الجند البواسل أضعاف جند قريش عددا، وهم إلى ذلك كتلة واحدة، لا يفت في عضدهم خلاف ولا يضعضع من عزمهم تنافس، ليس بينهم من التفاوت في العقيدة والجنس ما بين أهل اليمن، لا جرم، وذلك شأنهم، أن يكونوا أولي بأس وقوة يجب أن يحسب الصديق لها الحساب.
ولم تكن هذه العوامل وحدها هي التي لفتت نظر أبي بكر لتقوية غزاة اليمامة ما استطاع تقويتهم، فهو حين عقد ألويته الأحد عشر لحرب أهل الردة لم يكن يقيم لمسيلمة كل هذا الوزن، أو يحسب لبني حنيفة كل هذا الحساب، لذلك وجه إليهم عكرمة بن أبي جهل، ثم وجه في أثره شرحبيل بن حسنة يعاونه، وسار عكرمة إلى اليمامة ولم ير أن ينتظر شرحبيل، بل بادر بلقاء مسيلمة ليكون له فخار النصر عليه، وكان عكرمة بطلا مجربا وفارسا مغوارا، وقد اجتمع في لوائه أبطال صناديد طالما أبلوا في الحرب أحسن البلاء، مع ذلك لم يثبت عكرمة ولا ثبت لواؤه لمسيلمة، بل نكبهم بنو حنيفة فانهزموا، وبلغ من نكر هزيمتهم أن أقام شرحبيل بالطريق حيث أدركه الخبر على حقيقته الفاجعة، وكتب عكرمة لأبي بكر بالذي أصابه وأصاب جنده، فملك أبا بكر الغضب وكتب إليه: «يا بن أم عكرمة! لا أرينك ولا ترني، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى حذيفة وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك تستبرئون الناس حتى تلقى المهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت.» ولا أراني في حاجة إلى بيان ما في هذا الكتاب من مظهر الغضب، وحسبك بدؤه بقوله: «يا بن أم عكرمة»، ففي هذه العبارة ما فيها من زراية واستخفاف.
كيف استغلظ أمر مسيلمة حتى بلغ هذا المبلغ؟ لقد كان على تعبير مؤرخي العرب، «رويجلا، أصيفر، أخينس» لا يدعو مظهره إلى تقدير أو احترام، ولقد ذهب مع وفد بني حنيفة إلى النبي عام الوفود، فلما بلغ الوفد المدينة لم يأخذه قومه ليلقى النبي معهم، بل خلفوه على رحالهم، ولما أسلم القوم بذل لهم النبي العطاء، فذكروا له مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر به لكل منهم، وقال يجامله: «أما إنه ليس بشركم مكانا.» وذلك لحفظه رحال أصحابه. أفيكون ذلك هو الذي يدعي النبوة من قومه! لذلك لم يصدقه منهم أول الأمر إلا نفر قليل.
أفمعجزة تلك التي جمعت الألوف وعشرات الألوف حوله فيما دون السنتين؟ كلا! وإنما هي شعبذة المشعبذين، وحيل المحتالين، وانقياد الجماعات لهؤلاء وأولئك، فقد كان من أهل هذه الأرجاء رجل يدعى «نهارا الرجال، أو الرحال، ابن عنفوة»، وكان قد هاجر إلى رسول الله بالمدينة، فقرأ القرآن وفقه الدين، وعرف تعاليم الإسلام؛ وكان ذكيا ذا بصيرة، أرسله رسول الله معلما لأهل اليمامة يفقههم في الدين، ويرد من اتبع منهم مسيلمة، ويشد من عزائم المسلمين ويشغب معهم على المتنبئ الكاذب، لكن «نهارا» كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة نفسه، فهو لم يلبث، حين رأى السواد يتبعه، أن أقر بنبوته وأن شهد بأن محمدا يقول: إن مسيلمة قد أشرك في الرسالة معه. ما عسى أن يقول أهل اليمامة عن هذا! لقد شهد شاهد من أهل محمد لمسيلمة، وهذا الشاهد رجل فقيه عالم، يتلو عليهم قرآن محمد، ويقص عليهم تعاليمه، ويفقههم في دينه، وهو يشهد لمسيلمة بالنبوة، ما إلى نفي ذلك أو الطعن في صحته بعدئذ من سبيل، لذلك أقبل الناس على مسيلمة أفواجا يؤمنون به رسولا لله إلى بني حنيفة؛ وبذلك أقبلت عليه الدنيا وأصبح في متناول يده كل ما يشاء ويهوى.
Bog aan la aqoon