وقال:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون
وقال للمؤمنين:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (آل عمران: 144) وإنما أراد الصديق بذكر هذه الآيات أن يدفع بها ما ثار من الفتنة بقول الذين قالوا: لو أن محمدا كان رسولا حقا ما مات، وبعد أن فرغ من ذلك ومن الإيصاء بتقوى الله والاعتصام بدينه قال: «وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به، اغترارا بالله (عز وجل)، وجهالة لأمره ، وإجابة للشيطان ... وإني قد أنفذت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أن يقاتله على ذلك، ولا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبي النساء، والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن آمن فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان.» لذلك كان المسلمون إذا أذنوا فأذن الناس كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا سألوهم ما هم عليه، فإن أبوا عاجلوهم.
أذاع أبو بكر هذه الرسالة في مختلف الأنحاء من شبه الجزيرة، وإنما ابتغى بها أن يدع للمترددين فرصة للتفكير؛ فإنه قد انساق كثيرون وراء الدعاء مخافة ما يصيبهم إذا أقاموا على إسلامهم، أو أمسكوا على الأقل عن نصرة زعماء الردة، بذلك تحقن دماء، وبه يتضعضع عزم كثيرين فلا يقاومون، وسترى أن هذا الأثر الذي قصد إليه أبو بكر من هجومه السلمي قد تحقق منه حظ عظيم.
على أن أبا بكر لم يقصد من هجومه ذاك مداورة يقف عندها، فإن أنتجت أثرها فذاك، وإن لم تنتجه التمس وسيلة غيرها لهجوم سلمي آخر، كلا! بل لقد كان جادا كل الجد في كل كلمة من كلمات كتابه، وفي كل صورة من صور التهديد التي ذكرها فيه، فهو لم يلبث حين أتم هذا الكتاب يعذر فيه للمرتدين وينذرهم أن كتب إلى أمراء الألوية عهدا لقتال من رجع عن الإسلام أن يجاهدوهم بعد أن يعذروا إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام، فإن أجابوا الأمير على جند المسلمين أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم ما لهم، لا ينظرهم، ومن يجب الدعوة لم يكن لأحد عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، أما من لم يجب داعي الله فليقتل وليقاتل حيث كان، ولا يقبل منه إلا الإسلام، وليقتل بالسلاح والنيران.
بهذين الكتابين وبالألوية التي عقدها أبو بكر تم التجهيز لحروب الردة، وأنت ترى في هذا كله صورة صحيحة للسياسة الحازمة التي اتبعها أبو بكر في خلافته، وقد يحسبها البعض عجبا من أبي بكر مع ما عرف عنه من لين الطبع ودماثة الخلق والحرص على تألف القلوب بالحسنى، لكنها ليست عجيبة البتة وإيمان الصديق بالله ورسوله لم يعرف التردد إليه سبيلا، والطبائع الرقيقة تأبى العنف ولا تميل إلى الشدة في مألوف ما بين الناس من تجارة الحياة، فأما إن اتصل الأمر بشيء يؤمن أصحاب هذه الطبائع به، فلن تقاس بشدتهم شدة ولا بقوتهم قوة، وكأنما ركب في الفطرة الإنسانية مقدار من الشدة واللين يتقارب قدره في كل فرد من الناس جميعا، ثم يتفاوتون في تقدير الأوقات والمناسبات التي تجب فيها الشدة أو يجب فيها اللين، فمنهم من تغلب الشدة طبعه أكثر الوقت، فإذا رأيته حسبته لا يلين أبدا، ومنهم من تغلب الرقة طبعه أكثر الوقت، فإذا رأيته حسبته لا يشتد أبدا، والواقع أنك ترى من تغلب الشدة طبعه يلين أحيانا، فإذا به يبلغ في رقته وفي لينه حدا لا يجده الإنسان فيمن ألف منهم لين الجانب ورقة الطبع، والذين تغلبهم الرقة معظم الوقت وتبلغ منهم حد التألم للغير والبكاء لشقائه، يصلون من البأس والبطش أحيانا إلى حد لا يجده الإنسان فيمن كانت الشدة بعض طبعهم.
أفكان يظن أحد أن يقف أبو بكر من بعث أسامة ذلك الموقف الحاسم مخالفا كبار المسلمين، مهاجريهم والأنصار؛ أو أن يشتد في أمر الذين منعوا الزكاة لا يصده عن قتالهم غياب جيش المسلمين عن المدينة؟! وسترى له من بعد مواقف كهذه تثير عجبك وإعجابك لبأس رجل كله الرقة والرفق ولين الجانب.
وقد بينا تأويل ذلك من قبل حين تحدثنا عن إيمان الصديق بالله ورسوله، كان هذا الإيمان عنده هو الحق لا حق غيره، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكان حقا كله، فصله الله في كتابه الذي أوحاه إلى محمد عبده ورسوله، فإذا جاز أن يساوم الناس بعضهم بعضا على أمر في الحياة، فلن تتناول المساومة هذا الحق المتصل بالله جل شأنه، والذي لا يملك أحد من أمره إلا التسليم به والإذعان له، فمن حدثته نفسه بالخروج عليه فلا شأن لأبي بكر معه إلا أن يقاتله حتى يرده إلى الحق أو يقتله، وهو يقاتله ولو كان الصديق وحده، ولو لم يبق في القرى غيره، كذلك كان في أمر من منعوا الزكاة، فأحر به أن يكونه في أمر من تمت ردتهم أو حدثتهم أنفسهم أن يؤمنوا برسول غير محمد رسول الله.
آن لأبي بكر بعد أن تم التهيؤ لقتال المرتدين أن يبدأ هذه الحرب الحاسمة في حياة الإسلام، فلقد كانت حربا حاسمة لا ريب، ولئن لم ينتصر المسلمون فيها ليكونن ذلك النذير بعود العرب إلى جاهليتهم الأولى، لكن الله جل ثناؤه قدر أن يظهر دينه على الدين كله، وجعل أبا بكر أول آية له تطالع الناس بما أراد وقدر؛ لذلك لم يعرف تاريخ الإسلام ولن يعرف حروب ردة كالتي واجهها أبو بكر فتغلب بإيمانه عليها، ثم كانت طليعة انتشار الإسلام في الخافقين.
Bog aan la aqoon