1
كانت هذه العوامل تنخر في عظام الإمبراطوريتين العظيمتين وتنحدر بهما سراعا إلى مهاوي الشيخوخة، فكان من مقتضيات سنن الكون أن تقوم أمة شابة مقامهما، توجه العالم وتكيف مصايره، والنجاح مكفول لهذه الأمة ما حملت إلى العالم رسالة يشوق الناس سماعها، ويرون فيها ما ينقذهم من شرور طالما ناءوا بها ورزحوا تحت أعبائها.
لم يكن عالم يومئذ يشقى بأسباب الحياة المادية؛ فلم يكن همه الأول رفع مستوى العيش، إنما كانت تعوزه الطمأنينة إلى الحياة والمتاع بالحرية فيها، فقد كان الناس لا يتحركون ولا يسكنون أحرارا في حركتهم وفي سكونهم، بل كانت العقائد والقوانين السائدة يومئذ تكبلهم بقيود شلت حركتهم وأهدرت حريتهم، لم تقف هذه العقائد والقوانين عند المبادئ العامة التي تكفل للفرد حريته في ظل النظام، وتكفل بذلك للجماعة أن تطور إلى ناحية الكمال بجهود أفرادها الأحرار وجماعاتها الطليقة، بل دخلت القيود مع الفرد داره ومخدعه، وآذته في يقظته وفي نومه، فشلت نشاطه وتفكيره، وجعلت التحايل وسيلته إلى اتقاء الأذى والفرار من البطش، وإلى اهتبال الرزق من كل طريق، والتوسل بسعته وبسطته إلى مكان النبل والجاه، نبل البطش وجاه الجبروت، وحيثما قضي على النشاط الحر للعقل الإنساني، فذلك النذير بانحلال الأمة وتدهورها،، وبدبيب الشيخوخة إلى كيانها.
فالحرية العقلية هي التي طوعت للإنسان منذ أقدم العصور أن ينظر، وأن يلاحظ، وأن يعلم، وأن يبتكر. أسلافنا الأولون الذين عاشوا في الغابات وحاربوا الحيوان، إنما استطاعوا محاربته يوم هدتهم حرية الغريزة إلى ابتكار الأدوات التي استعملوها في حروبهم في العصر الحجري والعصور التي تلته، فلما أقامت الجماعة الإنسانية الأولى على ضفاف النيل وعرفت الزراعة، ثم عرفت حياة الاستقرار والحضارة، أدركت بفطرتها أن لا مفر لها من نظام يكفل لها الأمن وحرية العمل، وأن لا مفر لنظامها من قواعد ثابتة يقرها الجميع ويحترمونها، وقد هدتهم فطرة الاجتماع الغريزية في الإنسان إلى تجسيد هذه القواعد، وتقديس ما ظنوه آلهتهم التي ترعاها وتحميها، ثم ما لبثت هذه الجماعة الأولى، حين سما تفكير الموهوبين من أبنائها إلى ما فوق الغريزة الفطرية، أن قدرت معاني العدل والحرية والكرامة الإنسانية، بذلك استيقظ الضمير، فتفتحت للإنسان أبواب التفكير، فاهتدى من سبيلها إلى العلم وإلى الأدب والفن، كشف له أستارها من اختارتهم الأقدار لمعالجتها ووهبت لهم هبتها.
2
وظل التطور الإنساني يتقدم في هذه الناحية حينا ويتراجع حينا آخر في جزر ومد، وفي كل حين كانت حرية العقل آية تقدم الإنسان، وجموده آية تراجعه، فإذا تحرر العقل استطاع بقوة تفكيره أن يتحكم ولو بقدر في قوى الطبيعة، وأن يسخرها لأغراض الإنسان، وأن يفيد بذلك من هذا التحكم جديدا لرقيه، وإذا جمد العقل وقف تقدم الإنسانية، فاكتفت بغريزة حفظ النوع تستجن في كنفها حتى تبتعثها الحرية العقلية إلى التقدم كرة أخرى.
لم يكن بد، وقد جمدت الإمبراطوريتان فارس والروم فدب الفساد في كيانهما، من أمة جديدة تنهض فتدفع العالم إلى الأمام، ترى في أية أمة تستكن هذه القوى الدافعة، ومتى يتاح لها أن تظفر؟! ذلك أمر كتبه القدر في لوحه، أو هو، على تعبيرنا العلمي في هذا العصر، أمر ثابت في دورة الزمان والمكان للجماعة الإنسانية ثبوت كسوف الشمس وخسوف القمر وظهور المذنبات في دورة الفلك، وقد شاءت الأقدار فألقت على الأمة العربية في شبه الجزيرة عبء النهوض بالحضارة المتداعية، وبعث الحياة في شتى نواحيها، ولهذا اصطفى الله نبيه محمدا
صلى الله عليه وسلم ، فأوحى إليه دين الحق يبلغه للناس ويدعو إليه بالحجة والموعظة الحسنة، عن طريق النظر في الكون، نظرا حرا من قيود الوثنية والمجوسية ومن الجدل العقيم الذي هوت إليه المذاهب المتضاربة في بلاد الروم، وقد حوربت هذه الدعوة في منبتها حربا اتصلت على السنين، فلم تعرف هوادة ولا صلحا، حتى نصر الله دينه وأتم كلمته، إنما أراد الله لهذه الدعوى أن تنتصر ببساطتها وصفائها وسموها بالكرامة الإنسانية وبالعقل الإنساني إلى المكان اللائق بهما، وبانتصارها قضي على الوثنية في شبه الجزيرة كلها قبل أن يختار رسول الله من عند الله.
أما وقد قضت الدعوة إلى التوحيد وإلى مبادئ العدل وسمو الخلق على كل ما يخالفها، فلم يكن لزعماء الردة في بلاد العرب أن يحاولوا إعادة الوثنية، وإنما حاول هؤلاء الزعماء استغلال التوحيد والمبادئ المترتبة عليه لينتشر سلطانهم، وتعظم فائدتهم في تجارة الحياة، ولهم من العذر عن ذلك أننا معشر الناس لما بلغ من سمو الإدراك ما يجعلنا نقيم الحد الفاصل بين الحق لذاته، والمنافع المادية التي نجنيها من استغلال اسمه والتذرع لخداع الناس بسلطانه، والناس يرون الحق فيبهرهم لألاؤه، ويعشون دون استجلائه في جلال كماله؛ لأن الضمير الإنساني لا يزال في طفولته، والنفس الإنسانية لا يزال جوهرها العلوي يختلط بجواهر النقص التي تغشى عليه وتفسد حكمه.
لذلك يؤذي الناس من يدعونهم إلى الحق، ويحتمل الدعاة الصادقون هذا الأذى راضية نفوسهم ما أدى احتماله إلى ذيوع الحق وانتشار كلمته، وكلما علا صوت الحق اشتد في حربه من يخشونه على بسطة رزقهم وسلطان بأسهم، ذلك هو النزاع الذي اتصل على الزمان بين المنافع العاجلة والمبادئ الخالدة، والذي جعل الحرب مسوغة للقضاء على الباطل ورد كيده إلى نحره.
Bog aan la aqoon