وكان خالد أثناء هذا الشهر الذي أقامه بالشام قد عرف من أسرار قيادة الروم ما طوع لعبقريته أن ترسم الخطة لملاقاتهم والظفر بهم، لذلك عبأ الجيش فرقا، أو كراديس على تعبير المؤرخين، كل كردوس منها ألف رجل، وجعل على كراديس القلب أبا عبيدة، وعلى كراديس الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى كراديس الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وجعل على كل كردوس رجلا من القادة الشجعان أمثال القعقاع وعكرمة وصفوان بن أمية ومن إليهم، وهذه تعبئة لم تعبئها العرب من قبل؛ وإنما سوغها خالد بقوله لأصحابه: «إن عدوكم قد كثر وطغى، وليس أكثر في رأى العين من الكراديس.»
وعهد خالد إلى أبي سفيان في مهمة القاص، فكان ينتقل بين الكراديس فيقول: «الله، الله! إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا اليوم من أيامك! أنزل نصرك على عبادك!»
وسمع خالد رجلا يقول: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين!» فغضب حين سمعها وصاح: «بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر بريء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد.» والأشقر فرسه، وكان حفي في مسيره بالمفازة.
وانتشرت عبارات خالد هذه في العسكر وجعل الجند يتناقلونها من كردوس إلى كردوس، فتلهب النفوس حمية وتوقظ في القلوب الشوق إلى الاستشهاد، بل لقد تكررت على كل الألسنة كلمته: «إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان.» وذكروا جميعا غزواته، وذكروا قبلها غزوات الرسول، وكيف لا يذكرونها وبينهم ألف رجل من أصحاب رسول الله، منهم مائة من أهل بدر! وخالد بن الوليد هذا، أليس هو الذي دوخ الفرس وحطم جيوشهم، وكانوا بالنسبة لجيشه بالعراق كجيوش الروم بالنسبة لهم عددا! النصر إذن آت لا محالة وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
وسرت إلى قلوب المسلمين قوة لم يكن لهم بمثلها عهد منذ نزلوا الشام، فقد أيقنوا أن خالدا أراد لهذا اليوم أن يكون يوم الفصل، وهم يعلمون أن خالدا إذا أراد لم ترده قوة عن عزمه، ثم إنهم رأوا الروم تهيئوا من جانبهم إلى موقعة حاسمة فليس إلى اتقائها سبيل، صدق إذن والله خالد: هذا يوم من أيام الله، يستحب فيه الاستشهاد، وتفتح فيه أبواب الجنة، وتوهب فيه الحياة لمن حرص على الموت، لذلك تقدم القادة صفوفهم، هذا يرتجز، وذاك يرتجل، والثالث يتمثل، وكلهم ينتظر الأمر بالهجوم بصبر نافد وعزم ثابت على النصر أو الموت.
اتصلت بالروم أنباء عن تجهز المسلمين كما اتصل بالمسلمين نبأ تجهزهم، أن كان بعض البدو من تلك الأصقاع ينقلون الأنباء متجسسين بين العسكرين، وقد عرف خالد من هؤلاء البدو أسرار قيادة الروم، كما عرف فزع بعض أمرائهم حين علموا بمقدمه من العراق، وكان چرچة أكثر هؤلاء الأمراء فزعا، ولعل چرچة هذا كان عربيا أو روميا أقام بالشام السنين الطوال، فعرف العربية وسمع بأبناء المسلمين، ولقد مال قلبه إلى خالد حين نقل له المتجسسون أنباء نصره، وعرف خالد ذلك عنه فلما صدرت أوامر باهان إلى جيوش الروم بالزحف على المسلمين كان چرچة بجيشه في الطليعة، فتلقاه خالد وفسح له ولعسكره طريقا، وظن فيلق من الروم أن چرچة في حاجة إلى المدد فانقضوا على المسلمين فأزاحوهم عن مواقفهم وحملوهم على التراجع.
كان عكرمة بن أبي جهل على كردوسه أمام فسطاط خالد بن الوليد، وقد رأى تسليم چرچة وجنوده فاستراح له، فلما رأى هجمة فيلق الروم وتراجع المسلمين أمامهم ثار في عروقه دمه وصاح في وجه الروم: «قاتلت رسول الله في كل موطن وأفر منكم اليوم!» ثم انقلب إلى أصحابه ينادي: «من يبايع على الموت؟!» وبايعه ضرار بن الأزور والحارث بن هشام في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم بينهم عمرو بن عكرمة ولده، واندفع هؤلاء أربع المائة الذين بايعوا على الموت على فيلق الروم هجمة رجل واحد، مستميتين في سبيل ربهم، وقد تجلى لهم وجهه الأكرم، وقد أضاء لهم بنوره سبيل الاستشهاد والجنة، وزلزلت الهجمة الروم وزادهم زلزالا أن انضم چرچة وجنوده للمسلمين في مهاجمتهم، مما ثبت في نفوسهم اليقين بغدر بني وطنهم وانضمامهم لأعدائهم.
ورأى خالد فيلق الروم يرتد فأمر الجيش كله بالتقدم، فإذا الروم يلقونه بهجوم ليس دون هجومه عنفا، هنالك أيقن المسلمون أن لا مفر لهم من الفناء إلا بالنصر، فازدادوا بالله إيمانا، وزاد الإيمان هجومهم قوة، اندفع ابن الوليد في مقدمتهم يهوي بسيفه على عدوه فيخطف أرواحهم خطفا، وبلغت الحماسة بالمسلمين حتى شارك النساء الرجال، فكانت لجويرية ابنة أبي سفيان مواقف تعيد إلى الذاكرة موقف أمها هند في غزوة أحد.
وقاتل الروم مستميتين، واندفعوا يقتلون من المسلمين كل من وقع في يدهم، ولذا ترجحت المعركة واستمر ترجحها طيلة النهار، ووقف عكرمة والذين بايعوه على الموت لا يتراجع أحد منهم قيد أنملة بعد أن وهب كل منهم لله نفسه، وبذلك حملوا وطيس المعركة من بداءتها إلى منتهاها، فلما كانت الشمس في المغيب بدأت قوات الروم تهن، وبدا الإعياء على وجوه فرسانهم، ورأى خالد أنهم يلتمسون إلى الهرب الوسيلة، أما والهاوية من ورائهم والمسلمون من أمامهم، فليس لهم إلى مهرب من سبيل.
وقدر خالد أن فرارهم يزيد أصحابهم ضعفا، فأمر رجاله ففسحوا طريقا يؤدي بهم إلى الوادي، ولم يلبث هؤلاء الفرسان حين رأوا وسيلة النجاة تهيأت لهم أن فروا هاربين وتفرقوا في البلاد، عند ذلك انقض خالد بفرسانه ومشاته على مشاة الروم فاقتحموا عليه خندقهم فتراجعوا؛ وكانت وراءهم هاوية الواقوصة فتردوا فيها وكأنهم جدار دك من أساسه، وشدد المسلمون الضغط عليهم فجعلوا يتراجعون فيتردى في الهاوية منهم فريق بعد فريق، وظلوا كذلك يتلاحقون، حتى قيل: إنه قتل منهم يومئذ مائة ألف، وقيل: مائة وعشرون ألفا.
Bog aan la aqoon