أما المناظرة فكانت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي، وعنده ولداه: جعفر والفضل، وأفضل الروايات في وصف هذه المناظرة ما ذكره ياقوت في معجمه نقلا عن الأخفش والمبرد وثعلب، قالوا: «قدم سيبويه إلى العراق على يحيى بن خالد البرمكي، فسأله عن خبره، فقال: جئت لتجمع بيني وبين الكسائي. فقال: لا تفعل، فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها، ومؤدب ولد أمير المؤمنين، وكل من في المصر له ومعه. فأبى إلا أن يجمع بينهما [ومن ذلك تبدو رغبة سيبويه في التحدي والغلب وثقته بنفسه]، فعرف الرشيد خبره، فأمره بالجمع بينهما، فوعده بيوم، فلما كان ذلك اليوم غدا سيبويه وحده إلى دار الرشيد، فوجد الفراء والأحمر وهشام بن معاوية ومحمد بن سعدان قد سبقوه، فسأله الأحمر عن مائة مسألة، فما أجابه عنها بجواب إلا قال: أخطأت يا بصري. فوجم سيبويه، وقال: هذا سوء أدب. ووافى الكسائي وقد شق أمره عليه، ومعه خلق كثير من العرب، فلما جلس قال له: يا بصري [ومن هذه النسبة يظهر أن المناظرة لم تكن مناظرة شخصية، بل كان يلاحظ فيها أنها مناظرة بين البصرة والكوفة؛ ولذلك أهمل ذكر اسم سيبويه في مخاطبته، واستبدل به: يا بصري] كيف تقول: «خرجت وإذا زيد قائم»؟ قال: «خرجت وإذا زيد قائم». قال: فيجوز أن تقول: «خرجت فإذا زيد قائما»؟ قال: لا. قال الكسائي: فكيف تقول: «قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها»؟ فقال سيبويه: «فإذا هو هي»، ولا يجوز النصب. فقال الكسائي: لحنت. وخطأه الجميع، وقال الكسائي: العرب ترفع ذلك كله وتنصبه. ودفع سيبويه قوله، فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما، وهذا موضع مشكل؟ قال الكسائي: هذه العرب ببابك، قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم، فيحضرون ويسألون. فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت. وأمر بإحضارهم، فدخلوا، وفيهم أبو فقعس وأبو دثار وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بينهما، فتابعوا الكسائي.»
هذه هي الرواية المعقولة للطريقة التي دارت بها المناظرة بين الكسائي وسيبويه، وأغلب الظن أن الأعراب الذين استشهد بهم الكسائي قد نطقوا بتلك الجملة كما نطق، وأغلب الظن أن بعض العرب ينطق بالجملة كذلك. وقد قال أصحاب سيبويه: إن الأعراب الذين شهدوا للكسائي من أعراب الحطمية الذين كان الكسائي يقوم بهم ويأخذ عنهم. أما تلك الرواية التي تزعم أن الأعراب اكتفوا بقولهم: الحق ما قال الكسائي، وهو كلام العرب، ولم ينطقوا كما نطق الكسائي، فغير معقولة ولا مقبولة، فقد كان سيبويه يعلم أن العرب الخلص في ذلك الحين يسبق الصواب إلى ألسنتهم.
ولم يكن سيبويه من قلة الذكاء بدرجة أنه لا يطلب من الأعرابي أن يتكلم، ويرجح الأستاذ أحمد أمين أن إصبع السياسة قد لعبت في هذه المسألة، ويروي ابن خلكان ما يفهم منه أن المسألة كانت مدبرة ضد سيبويه البصري، وكان الأمين تلميذ الكسائي من القائمين في هذا التدبير، وأنهم أحضروا أعرابا مرنوا ألسنتهم على أن تنطق بما ينطق به الكسائي، فيتم الأمر ويحكم للكوفة على البصرة، وفي ذلك إذلال لها أيما إذلال. والذي أرجحه أن المسألة أبسط مما يتصور حتى مع فرض أن إصبع السياسة قد لعبت فيها؛ ذلك أن الكسائي يعلم أن البصريين وعلى رأسهم سيبويه لا يعتدون بغير القياس، ولا يقرون ما يخالفه وإن ثبت سماعه، ولا يجيزون القياس عليه، وكان من اليسير على الكسائي أن يأتي بمسألة تخرج عن القياس، ولا يعدم أن يجد قوما ينطقون كما ينطق، ونحن نعلم أن بعض العرب قد شذ عن أشهر ما هو مألوف في اللغة ونظم الكلام.
والآن: ما وجه الصواب في هذا الخلاف؟ لا شك أن القياس هو ما قاله سيبويه، وهو المتمشي مع المنطق، ف «هو» مبتدأ و«هي» خبر، وهما ضميرا رفع، وأما: «خرجت وإذا زيد قائم» فيجوز في «قائم» الرفع والنصب، وإنما جاز فيها الوجهان، وامتنع في: «فإذا هو هي» لأن قائما تنصب على الحال وهي نكرة، أما إياها فمعرفة لا تصلح أن تكون حالا، فيتعين أن نأتي بالضمير المعرفة خبرا. (8) حبسة لسانه
يرجع إخفاق سيبويه في هذه المناظرة فضلا عن التحامل عليه، وأنه لم يستصحب معه أنصاره، ولا يؤمن بالقياس على الشاذ، إلى أنه لم يكن من الفصاحة بحيث يستطيع التأثير في سامعيه، ويكاد مؤرخو سيبويه يجمعون على أنه كان ألكن، حدث أحمد بن معاوية قال: ذكر سيبويه عند أبي فقال: عمرو بن عثمان، قد رأيته، وكان حدث السن، كنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو، وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فرأيت علما أبلغ من لسانه، أو كانت هذه اللكنة سببا قويا في إخفاقه في المناظرات، فإنه لم يخفق في مناظرته للكسائي فحسب، ولكنه أخفق في مناظرة أخرى دارت بينه وبين الأصمعي، وكان الحق فيها معه، ولكنه هزم بسبب هذه اللكنة في لسانه، حدث أبو حاتم السجستاني قال: دخلت على الأصمعي في مرضه الذي مات فيه، فسألته عن خبره، ثم قلت له: في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه. قال: سل. فقلت: حدثني بما جرى بينك وبين سيبويه من المناظرة. فقال: والله لولا أني لا أرجو الحياة من مرضتي هذه ما حدثتك، إنه عرض علي شيء من الأبيات التي وضعها سيبويه في كتابه، ففسرتها على خلاف ما فسره، فبلغ ذلك سيبويه، فبلغني أنه قال: لا ناظرته إلا في المسجد الجامع. فصليت يوما في الجامع، ثم خرجت فتلقاني في المسجد، فقال لي: اجلس يا أبا سعيد، ما الذي أنكرت من بيت كذا وبيت كذا؟ ولم فسرت على خلاف ما يجب؟ فقلت له: ما فسرت إلا على ما يجب، والذي فسرته أنت ووضعته خطأ، تسألني وأجيب. ورفعت صوتي، فسمع العامة فصاحتي، ونظروا إلى لكنته، فقالوا: لو غلب الأصمعي سيبويه. فسرني ذلك، فقال لي: إذا علمت أنت يا أصمعي ما نزل بك مني لم ألتفت إلى قول هؤلاء. ونفض يده في وجهي ومضى، ثم قال الأصمعي: يا بني، فوالله لقد نزل بي منه شيء وددت أني لم أتكلم في شيء من العلم، فأنت ترى أن لكنته سبب هزيمته.
ولقد كان لمناظرة سيبويه والكسائي أثرها في نفس كثير من العلماء، كانوا يؤمنون بصدق سيبويه وخطأ الأعراب الذين أخذ عنهم الكسائي، ومن هؤلاء يحيى بن المبارك اليزيدي الذي قال حينما سمع استشهاد الكسائي بأعراب الحطمية، وهي قرية على فرسخ من بغداد منسوبة إلى السري بن الحطم أحد القواد:
كنا نقيس النحو فيما مضى
على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه
على لغى أشياخ قطربل
Bog aan la aqoon