أما إذا أصررت على أن تكون ناقدا، فلا مندوحة لك عن خطوة بعد قراءة التذوق، خطوة هي وحدها التي تجعلك ناقدا، وهي أن تسأل نفسك: ماذا في هذه القصيدة من العوامل الموضوعية التي أثارت في نفسي هذا الشعور أو ذاك؟ وقد ينتهي بك البحث - مثلا - إلى أن اختيار الشاعر للبحر الطويل جاء موفقا؛ لأنه يناسب موضوعه، فأحدث ما أراد أن يحدثه من أثر في نفس القارئ أو السامع، أو إلى أن كثرة الراءات في هذا البيت جعلته جميلا، أو كثرة السينات والصادات في ذاك ... لكن هذه وأشباهها قواعد عامة، فكأنك تقول: كل بيت يصف خرير الماء وتكثر فيه الراءات فهو جميل في هذا الجانب منه، وكل بيت يصف الحرب بالسيوف وتكثر فيه السينات والصادات؛ فهو جميل كذلك في هذا الجانب منه، وهكذا. أنت هنا لا تنقل إلينا عناصر تجتمع فتكون موقفا فريدا لا يتكرر، بل تحدثنا عن قواعد عامة تتكرر في كل حالة شبيهة بالحالة التي أنت بصدد تحليلها. وما دمت في مجال التعميم فأنت عالم، وإذن فالنقد علم. ثم يقتضيك المنطق - أي العقل - ألا تناقض ما تقوله في موضع، بما تقوله في موضع آخر؛ فلا تقل مثلا في موضع ما: إن البحر الطويل يناسب التعبير عن الحزن؛ لأنه بطيء، والحزين بطيء الحركات والكلمات، ثم تناقض ذلك في موضع آخر، وتزعم لنا أن البحر الطويل لا يناسب الحزن ... وإن كان هذا هكذا؛ فأنت تصدر فيما تقول عن عقل. إنك، حين تنقد، عالم لا فنان، يبني كلامه على عقل؛ أي يخلصه من تناقض أجزائه، لا على الذوق الذي يتأثر بهذا الفرد الجزئي أو ذاك وكفى.
ولأنك في نقدك عالم يبني قوله على العقل؛ أمكن أن نناقشك الحساب فيما تقول، فنعترف لك بصدق قولك أو ندعي عليك الكذب، ولا يكون كذب أو صدق إلا فيما يصور شيئا موضوعيا بعيدا عن ذوقك الخاص وشعورك الخاص، بل يستحيل استحالة قاطعة أن تفيدني شيئا على الإطلاق بكلامك، إذا أردت أن تنقل إلي هذا الذوق الخاص وهذا الشعور الخاص؛ لأنه خاص بك مصبوب في أعصابك.
لست إذن أوافق أديبينا الكريمين: الدكتور مندور في كتابه «النقد المنهجي عند العرب»، والأستاذ علي أدهم في كتابه «على هامش الأدب والنقد»؛ فيما ذهبا إليه من أن النقد فن، ومرده للذوق. وأصر - كما قلت - على أن يكون علما، مرجعه إلى العقل، على شرط أن تفهم هذه الألفاظ بما حددت لها من معان.
دفاع عن الأدب1
تطغى على العالم موجة مادية تجتاحه أصولا وفروعا، وتريده على أن يحمل تراث الإنسانية الأدبي، منذ فجرها حتى اليوم الراهن، فيأخذ سمته نحو اليم؛ فيلقي بذلك التراث في لجة ما لها من قرار، ثم يعود وقد أزاح عن كاهله ذلك العبء المضني من دموع الشعراء وأنينهم وهزات نشوتهم وسرورهم، وغير ذلك من نزوات الطفولة التي لا تدعو إليها ضرورة ولا شبه ضرورة في هذا العصر الحديث، وأن يتوفر على أزيز المعامل ومقارع الآلات، التي لا ينبغي أن يطرب لسواها، أو ينصت لصوت غير صوتها! وماذا يغني دانتي وشكسبير بجانب علوم الطبيعة والكيمياء، التي على أساسها تعمل المطارق وتدور الأرحاء؟! وفي ذلك يقول الكاتب الإنجليزي توماس بيكوك: «الشاعر في عصرنا هذا نصف همجي يعيش في عصر المدنية؛ لأنه يقيم في الزمن الخالي، ويرجع بخواطره وأفكاره وخوالجه وسوانحه إلى الأطوار الهمجية، والعادات المهجورة، والأساطير الأولى، ويسير بذهنه كالسرطان زحفا إلى الوراء ... لقد كان الشعر نقرة تنبه الذهن في طفولة الهيئة الاجتماعية، ولكن من المضحك في عصر النضج العقلي أن نعنى بألاعيب طفولتنا، ونفسح لها موضعا من شواغلنا، فإن هذا سخف يشبه سخف الرجل الذي يشتغل بألاعيب الصبيان، ويبكي لينام على رنة الأجراس الفضية.»
هكذا يقال عن الأدب الآن، كأنه عرض من أعراض الحياة، لا يمسها في الجوهر والصميم! والواقع أننا حين ننزل عن الأدب وسائر الفنون؛ فإننا إنما ننزل عن نفوسنا، لأن هذه وتلك شيء واحد اختلفت أوضاعه.
وللشاعر الفيلسوف طاغور تحليل يبين به موضع الفن من أساس الحياة، وأنه ضرورة لازمة لا مناص منها، ونحن نورد للقارئ خلاصة موجزة لذلك البحث الجليل:
من الحقائق البديهية، أن الإنسان مرتبط بهذا العالم بصلات شتى؛ فهو يعيش في مضطرب الحياة مدفوعا بطائفة من الحاجات التي يتحتم عليه قضاؤها، وهو في تلك المحاولة مضطر إلى أن يتصل بالعالم اتصالا ليس له عنه منصرف ولا محيد.
فالحاجة الجسمية تملي عليه أن يفلح الأرض ويتعهد الزرع؛ حتى يثمر له القوت، وأن يلتمس من الطبيعة مسكنا وملبسا يدفعان عنه القر والهجير.
والحاجة العقلية تريده على أن يمعن النظر، ويستقصي البحث في مظاهر الكون؛ لأن العقل لا يقنع بالنظر إلى الأشياء الخارجية دون أن يتتبع العلل ويكتشف القوانين العامة التي تنتظم جميع الجزئيات، فهو مطبوع على هذا البحث؛ ليخفف عن نفسه أعباء الحقائق الكثيرة التي تصادفه في حياته، باختزالها في عدد قليل من القوانين، أو في قانون واحد شامل إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
Bog aan la aqoon