وأما ما رأيته من الغراب فبقعة سوداء، تحركت حركة معينة، ثم سكنت في مكان معين، على هيئة معينة. بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلال تعد بالألوف؛ فأي ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوف الألوف من الصور، فبأي منها تحركت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنت البقعة السوداء في مكان معين! حتى السكون يا صاحبي صنوف وأشكال؛ فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة ملقاة على سفح الجبل كسكون غرابك هذا على الفنن ... وقل مثل هذا فيما سمعت من الغراب، سمعته ينعق نعقتين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعت أذناك؟ وفي أية درجة من الدرجات أردت أن أضع نعيق الغراب؟ الحق أن ما رأيت من الغراب وما سمعت مركب فريد من عناصر اجتمعت على نحو يستحيل أن يكون له ما يماثله مماثلة تامة في كل ما رأيت وما سأرى من الغربان.
وما قلته في نفسي وفي الغراب، أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطت منها وهوت إلى الأرض ... ثم يزيد الأمر كله في درجة التركيب والتعقيد، حين نضيف هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورة واحدة، هي صورة فذة فريدة - كما أسلفت - لم تعرف، ولن تعرف الحياة لها مثيلا آخر، بكل ما في التماثل من دقة وتطابق.
وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابة ولا عجب! هكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد. كل كائن حي - والكائنات الحية ملايين الملايين - فيه ما يجعله فردا بذاته يختلف، ولو قليلا عما عداه. خذ ورقة من شجرة، ودر بها الأرض من قطبها إلى قطبها؛ فلن تجد لها مثيلا بمعنى التماثل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاء تاما. وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قط فردين يتشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المميزات جميعا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدق من هذا وألطف؛ فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنك دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.
هكذا الحياة يا صاحبي في شتى صورها، ولا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظة تالية.
والفن كما يقولون تصوير للحياة! مقياس الفن، بل معنى «الفن» هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا. لو قلت كلاما يصور حقيقية عامة تنطبق على هذا وذلك؛ فقولك بعيد عن الفن الرفيع. ومن هنا كانت ثورتي النفسية، وكان غيظي الشديد؛ كلما قرأت لكاتب من كتابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا إنه شاعر لحكمته، أو لصدق حكمه، أو ما إلى ذلك. الحكمة يا سيدي القارئ والحكم الصادق أدخل في باب العلم؛ لأنها تعمم القول ولا تخصصه في تصوير موقف فريد؛ وإلا خبرني - أثابك الله - ما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس»، وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد» و«الغليان من صفات الماء»، كلاهما يعمم الحكم، وإذن فكلاهما عالم وليس بأديب، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرا إلا إذا صور حالة جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صور ظالما معينا يتجسد الظلم في أعماله.
إننا نقول إن شكسبير كان شاعرا فنانا حين كتب مسرحيته عن كليوباترة، وشوقي لم يكن شيئا حين كتب؛ لأن الأول قد استطاع بقوة فنه أن يجمع عناصر جزئية بعضها إلى بعض بحيث تتكون صورة فذة فريدة لشخصية تجعلها كهذه الأشخاص الذين تراهم حولك أحياء. وأما الثاني فربما حاول ذلك ولم يوفق. ونجعل كتاب «الأيام» للدكتور طه حسين باشا خير كتبه جميعا لما فيه من تصوير لطفولة واحدة فريدة لا تجتمع عناصرها إلا مرة واحدة، ونجعل «سارة» خير ما أنتجه الأستاذ العقاد لإبرازه فيه شخصية واحدة كذلك، ونرجح للدكتور أحمد أمين بك أن يخلد في دولة الأدب بكتاب زعماء الإصلاح
1
أكثر من أي كتاب آخر؛ لأنه وفق فيه إلى هذه الفردية التي ينشدها الفن، حين رسم صورة هؤلاء الزعماء.
لو أحسنت لجعلت مقياسك في الحكم دائما على القطعة الفنية كائنة ما كانت هو هذا: إلى أي حد أخرج الأديب أو الفنان مركبا من عناصر الحياة يستحيل أن يقع إلا مرة واحدة؟ إن تغزل حبيب في حبيبته ولم تلمح في عبارته ما يفرد حبه عن حب سائر الناس، بل لم تلمح فيه ما يفرد تلك اللحظة الواحدة من حياته الغرامية عن سائر لحظات حياته الغرامية أيضا؛ فاعلم أنه شاعر زائف لا يصدر عن شعور صحيح، لأن شعوره الصادق الصحيح في تلك اللحظة إزاء حبيبته شيء فريد لم يتكرر، ولن يتكرر له مثيل إلى أبد الآبدين.
وقد قلت هذا الكلام يوما لأستاذ يحاضر في الأدب، فضحك مني ساخرا وقال: إنك تجعل الأدب أضيق من سم الخياط. وأنا الآن أرد عليه بقولي إنه فعلا كما وصف، وإلا فليحدثني لماذا يزخر كل جيل من الناس في البلد الواحد بآلاف «الأدباء» و«الشعراء» ثم لا يبقي الزمان من هؤلاء إلا أديبا واحدا أو شاعرا واحدا من كل عدة أجيال؟ ذلك لو نظرنا إلى العالم كله جملة، ولم نقصر نظرنا على قطر بعينه؛ لأننا قد نحصر النظر - يا سيدي الأستاذ - في قطر واحد، ولا أقول ما هو. قد نحصر النظر الصارم الصادق في هذا القطر الواحد، فلا نراه قد أنجب أديبا واحدا ولا شاعرا واحدا في طول الزمان من مولده، ولا أقول إلى منتهاه. •••
Bog aan la aqoon