وإذا كان المرض في بلاد العالم كلها يحتاج إلى مستشفيات ومعدات وأطباء ودواء، وفحص ورقابة ورعاية وعناية تتآزر في سبيلها الحكومات والأفراد جميعا؛ فهو عندنا لا يتطلب شيئا من هذا كله، فلا أكثر من ضربة يضربها الخطيب بجمع يده على منضدة أمامه، أو سجعة يسجعها الكاتب في مقال تنشره له الصحف ... وبعد ذلك فانظر كيف يجيء البرء للمرضى بين عشية وضحاها، انظر كيف يقوى السقيم، ويعتدل الكسيح، ويبصر الأعشى!
ولو قد كانت الأمور في بلادنا مستقرة مطمئنة هادئة؛ لانحصر فعل السحرة في نطاق ضيق غير ذي خطر؛ لأن الناس لا يلتمسون أفاعيل السحر إلا حين يشتد بهم الضيق ويزداد الحرج، فما أيسر أن ينساق الناقم الساخط القلق المضطرب لسحر الساحر؛ لأنه يريد شعاعا من الأمل حتى لو كان كاذبا. فمن وعده بإزالة الجهل عنه في شهر أو شهرين، خير ممن يدقق له ويحقق ويتأنى ويتمهل، ومن وعده بعلاج الفقر والمرض جميعا في يوم أو يومين خير له آلاف المرات ممن يقف عند أرقام الإحصاءات، يستقرئها ويستوحيها؛ عسى أن يهتدي بهديها إلى صراط مستقيم، لكنه على استقامته طويل لا يعلم إلا الله متى ينتهي، وإلى أين ينتهي.
نعم، إن المصلح الجاد الذي يحترم عقول الناس لا يتوقع إلا النتائج القليلة في الزمن القليل، ثم هو لا يتوقع هذه النتائج القليلة إلا من أسبابها الصحيحة. وأما الساحر فهو الذي يستطيع - مستعينا بسحره - أن يبشر الناس بنتائج لا تعرف قيودا ولا حدودا، فأي الرجلين نختار؟
إلى الساحر وسحره يا قوم، بقضكم وقضيضكم، وحسبه فضلا أنه يزخرف لكم الآمال، في هذه السنين التي استحكم فيها اليأس، وخاب الرجاء.
عريان يحلم
لو قيل لي: ما الكتاب الواحد الذي تتمنى أن يذيع في الناس ويشيع، وأن يستوعبه الناس درسا وتمحيصا؛ لعله يصور لهم أنفسهم تصويرا يثير فيهم الضحك والسخرية، فيستقيم لهم بذلك من أنفسهم عوج، ويرتدوا إلى نهج قويم وطريق مستقيم؟ لأجبت في غير تردد: هو قصة دون كيشوت!
ولا بد أن يكون القارئ قد ألم بطرف من قصة هذا الحالم الواهم، الذي قرأ كثيرا عن الفروسية والفرسان في سالف الأزمان فأعجبه ما قرأ، فتوهم نفسه فارسا من هؤلاء، وامتطى صهوة جواد له نحيل هزيل، وأمسك بسيف صدئ متآكل مثلوم، وراح ينسج على غرار الفرسان الأقدمين ... ولكنه نسج لم يجاوز به دائرة أوهامه وأحلامه، فيطعن الهواء بسيفه، وهو يتوهم أنه يطعن السيف في أحشاء الأعداء، ثم يغمد السيف في قرابه، وهو يتوهم أنه قد انتصر!
ولا بد كذلك أن يكون القارئ قد لحظ أن كثيرا جدا من الناس يشبهون «دون كيشوت» إلى حد بعيد أو إلى حد محدود؛ فتراهم ينسجون حول أنفسهم نسيجا من أوهامهم، يعيشون فيه ثم يخيلون لأنفسهم أنهم إنما يحيون ويتحركون في عالم الواقع ... ويزداد هذا الانحراف في الإنسان كلما كان أميل إلى الطفولة في نفسه وعقله؛ إذ يتميز الطفل بشدة هذا النوع من الخيال الذي يختلط عنده بالواقع، فيركب عصاه موقنا أنه على فرس، أو يجلس على وسادة حاسبا أنه في مركب أو قطار ... فانظر - مثلا - إلى هذا الرجل الذي أوهم نفسه بأنه عين من أعيان القوم وذات من ذواتهم، ثم أبى على نفسه بعد ذلك إلا أن يكون في معاملته للناس شاذا نابيا؛ لأنه يخشى لو اعتدلت أساليبه واستقامت، ألا يعده الناس ذاتا ولا عينا، فتصطدم أحلامه بالحقائق ويهوي إلى الأرض حطاما.
لكن الحديث يطول بنا لو جعلنا نتعقب الناس مرأة مرأة ورجلا رجلا، لنحلل ما أحاطوا أنفسهم به من أوهام استراحوا إليها وعاشوا في أكنافها سعداء، فما ضرنا أن يسعد الناس بالأوهام والأحلام؟!
إنما الخطر كل الخطر، والضرر أبلغ الضرر، أن تصاب الأمة بهذه النزعة «الكيشوتية» فتعيش في أوهامها وتستغرق في أحلامها، والدنيا من حولها ساهرة واعية، لا تحرك قدما إلا بحساب ولا تفعل فعلا إلا مهتدية بالأرقام ... إن أخشى ما أخشاه أن تفكر معي، فينتهي بنا التفكير إلى أننا أمة من هذا الطراز الحالم!
Bog aan la aqoon