القصد في القول والعمل
الظاهر أن المبالغة في القول والتهويل في الوصف من أوضح ما يميز انحطاط الثقافة عند القبائل، ويبين قلة حظه من المدنية والتهذيب، وأنه كلما أمسك المتكلم بزمام القول فلا يسرف ولا يغالي، كان ذلك دليلا على وفرة نصيبه من الثقافة والمدنية. وقل مثل ذلك في الأمم المختلفة والعصور التاريخية المتابعة؛ فالأمة المتأخرة تشيع المبالغة والتهويل في أدبها وكلام أفرادها. وأما الأمة الراقية فتراعي القصد في القول وعدم المبالغة في الوصف. وكذلك ترى الظاهرة الأولى جلية في عصور الجاهلية، بينما تلحظ الثانية في عصور الحضارة واضحة بينة.
إنه لمن أعسر الأمور على الأديب الهزيل أو الفنان الضعيف أن يقنع بالأمور كما يألفها الناس في الحياة الجارية الواقعة، فالتل على يديه يصبح جبلا شامخا، والفقر عنده لا بد أن يكون «مدقعا»، ويستحيل ألا يكون حر الصيف «لافحا» وبرد الشتاء «قارسا». لو كان موضوعه معركة فهي «حامية» والجيش فيها «جرار» والدماء لا يمكن أن تتناثر قطرات، بل لا بد لها أن «تسيل أنهارا»، والظلم عنده دائما «فادح»، وجمال أي فتاة تصادفه «رائع فتان»!
والأديب القدير وحده هو الذي يلجم القلم؛ حتى لا ينقلب التل على سنانه جبلا، ولا القطرة الواحدة مدرارا. والعجيب أن التزام الواقع أو ما يقرب منه مستحيل على غير الأديب البارع، مع أن هذا الواقع ماثل أمام العاجز كما هو ماثل أمام القادر سواء بسواء، بل أعجب من هذا أن الأديب الضعيف إن أخذ نفسه بوصف الواقع لا يعدوه؛ جاء وصفه ماسخا بائخا مبتذلا ذميما؛ لأنه لا يجد في طبيعته ما يهديه إلى اختيار العناصر التي يجوز إثباتها في وصفه، وترك العناصر التي لا يحسن إثباتها؛ فنحن إذ نقول إن الأديب الفحل وحده هو الذي يلجم قلمه بحيث يقف عند المألوف المعهود، فلا يهول ولا يسرف، لا يفوتنا أنه لا يأخذ هذا الواقع جملة وتفصيلا، لكنه يختار هذا العنصر ويترك ذاك، فإذا الصورة في النهاية رائعة تستثير الإعجاب.
ومن الشواهد الجميلة التي أذكرها من الأدب الإنجليزي في هذا الصدد، ما حدث حين انتصر «مولبرا» في موقعة بلنهيم (سنة 1704م)، فأخذ الشعراء الإنجليز عندئذ ينظمون القصائد في مدحه، والإشادة بنصره، ولكن التوفيق الفني أخطأهم جميعا؛ لأنهم أخذوا يمتدحون في «مولبرا» أنه صبغ الأنهار وخضب السهول بدماء الأعداء، فلم يصادف هذا القول وأشباهه قبولا عند نقدة الشعر. وأحس الناس أن هذه الواقعة الفاصلة ينبغي أن تلتمس سبيلها إلى الخلود عن طريق الشعر الرفيع؛ لذا لجأ بعض الوزراء إلى شاعر فذ هو «أدسن»، وطلبوا إليه أن يجود بقصيدة من شعره الخالد في «مولبرا» اعترافا بفضله، ففعل. وصادف عند النقاد كل إعجاب، وأشد ما أثار إعجابهم قوله عن «مولبرا» إنه كان رزينا هادئا يدبر في روية والعاصفة من حوله قاصفة. إنه لم يقل ما قاله سواه من أنه كان يرمي الرمح فيحصد الأعناق، وإنه كان وحده يسوق أمامه ألوف الرجال ويصبغ الأرض بالدماء؛ لأن هذه صور كلها زائفة مغالية مسرفة. والتصوير الصحيح الصادق هو أنه امتاز بتدبيره الهادئ، وضبطه لأعصابه، في يوم كانت الدنيا ترتج فيه من حوله.
ولا تقتصر المبالغة والتهويل على الكلام والأدب عند من تأخرت منزلته في المدنية والثقافة والتهذيب، بل إنهما ليظهران في مظاهر شتى، ترتبط كلها بسبب من التشابه بحيث ترتد إلى أصل واحد؛ فالجاهل المتأخر يبالغ في طعامه وشرابه، والمتحضر المهذب يراعي القصد فيهما. الأكلة الطيبة عند صاحب الذوق الخشن الغليظ هي التي يتخم فيها بحيث لا يقوى على حركة أو نشاط. وإن شرب خمرا؛ فالشراب عنده لا يكون جديرا باسمه إلا إن سكر وغاب عن وعيه. وترى هذا الصنف من الناس يفاخر بعضهم بعضا بكثرة ما يشتري وما يأكل من طعام، ولكم سمعنا في الريف كيف يمدح الرجل بأنه لا يشتري البطيخ إلا حملا كاملا، ولا القصب إلا «لبشة لبشة» ... وإنه لترد على خاطري الآن ملاحظة غاية في الطرافة لست أذكر أين وقعت عليها، وهي أن اهتداء الإنسان لتقسيم طعام يومه على ثلاث وجبات لم يأت إلا بعد أن سار في المدنية شوطا بعيدا. أما الهمج البدائيون - شأنهم في ذلك شأن الحيوان - فقد كانوا يأكلون وجبة ضخمة حينا بعد حين، كلما صادفهم طعام، وكانوا لا يعرفون مبدأ الاحتفاظ بالطعام إلى مستقبل قريب أو بعيد. وعلى ذلك فإن الشعوب التي تركز طعامها في وجبة واحدة في النهار يغلب أن تكون متأخرة بالنسبة للشعوب التي تجزئ الطعام بين وجبات ثلاث. ولعل الأساس في هذا هو المبالغة عند فريق والقصد والاعتدال عند فريق آخر؛ فالذي طبع على المغالاة والإسراف لا يستطيع أن يكف عن الطعام ما دام أمامه بقية من طعام. والذي نشأ على القصد والاعتدال يسهل عليه ترك المائدة على شبع خفيف هو بين الخلاء والامتلاء.
ومن ظواهر المبالغة عند المتأخر، والقصد عند من حسن حظه من التهذيب، طريقة كل منهما في التعبير عن عواطفه على اختلافها غضبا كانت أو حزنا أو سرورا؛ فالهمجي إذا غضب يثور ويفور ويضرب ويركل وقد يقتل. أما المهذب إذا غضب فيكاد لا يبدو عليه الا القليل من تجهم؛ فهو يملك زمام نفسه حتى يتولى القضاء الأمر إذا دعت الحال إلى ذلك. والهمجي إذا حزن ولول ومزق ثيابه وتمرغ في التراب وأرسل لحيته، وأبى على نفسه النظافة إلى آخر ما نشاهده بأعيننا في بعض الطبقات عندنا، وخصوصا النساء. وأما المهذب فإذا حزن جاء تعبيره عن حزنه صامتا هادئا، والهمجي إذا فرح ضحك في قهقهة عالية ترج الهواء رجا، على حين تكفي المهذب ابتسامة أو ضحكة في حدود الاعتدال. والمآتم والأفراح ما زالت قائمة بيننا لسانا ناطقا بما يتصف به بعضنا من إسراف في الحزن والفرح على السواء.
وظواهر المبالغة والإفراط التي تنم عن حوشية الطبع وخشونة الذوق عند صاحبها لا تنتهي إذا أردت لها حصرا وعدا؛ فالهمجي يبالغ في الألوان الفاقعة الناصعة، حتى لتعرف مقدار حظ الرجل من التثقيف والتهذيب والتمدن بألوان ثيابه. فإن كانت زاعقة صارخة فالأرجح جدا أن يكون حظه من ذلك كله قليلا أو معدوما. وكذلك قل في زينة المرأة، فكل امرأة تصبغ وجهها، لكن ما كل امرأة تعرف أين تقف في صبغها لوجهها حتى لا تجاوز هدوء الألوان الذي يرتضيه ويقتضيه الذوق المهذب السليم. وإني لأذكر بهذه المناسبة أني زرت معرضا للفن مع صديق لا يكاد يظفر بشيء من الذوق المرهف، ولم يزر معرض الفن إلا لأنه كان يصحبني، وخجل أن يعتذر ووقفنا عند صورة امرأة بالغ الرسام في أحمر خديها وكحل عينيها. وبالطبع قد بالغ في ذلك عمدا ليبين كيف تقبح المرأة، على الرغم من جمال قسماتها، إن هي أفرطت في الزينة إفراطا يمجه الحس الرقيق. ونظر صاحبي إلى الصورة قائلا: ما أجملها! فقلت: بل ما أقبحها! ولتعلم أن الفنان قد ضاع جهده عبثا إذا كانت هذه الصورة لم تبعث في نفسك التقزز والنفور.
وقل ذلك أيضا في ارتفاع الصوت عند الحديث. الهمجي المتأخر يبالغ في ارتفاع صوته بغير حاجة منه إلى ذلك؛ لأن من يتحدث إليه قد يكون على بعد قدم واحدة منه. وإن شئت فادخل مكانا يجتمع فيه فريق من الطبقات الدنيا التي لم تصب من التهذيب شيئا، واسمع ما يملأ المكان من ضجيج وعجيج قد يستحيل معهما أن تسمع صوت من يحادثك.
إنه ليعجبني من «شوبنهور» قوله: إن احتمال الأصوات العالية مقياس دقيق لدرجة المدنية، بل مقياس دقيق لمدى العبقرية في الإنسان. فكلما ازددت بطبعك اضطرابا للأصوات العالية كنت أعلى منزلة في درجات النبوغ. وإني لأسأل نفسي: لو كان هذا صحيحا، فأين نضع القاهرة وأهلها في سلم الحضارة الإنسانية؛ هذه المدينة التي قيل إنها أصخب مكان على وجه الأرض بغير استثناء، ومعظم الناس لا يشعرون!
Bog aan la aqoon