لكني لبثت سبعة عشر عاما أختلف إلى 9 شارع الكرداسي، حتى بات جزءا من حياتي ... ألا ما أعجب اختلاط الناس بالبناء! من ذا يستطيع أن يقص قصة حياته دون أن يجد شطرا كبيرا منها مرتبطا بهذا البناء أو ذاك. فمنزل ولد فيه ونشأ بين جدرانه، ومدرسة تلقى فيها العلم، وهكذا ... إن هذه الجدران الحجرية جزء حي من حياتي في هذه الغرفة سلخت كذا ساعة. وفي تلك الغرفة بذرت بذور هذا المشروع أو ذاك. وفي هذه الردهة نبتت الفكرة الفلانية لأول مرة، فكان من نتائجها كذا وكيت ... إني لا أعجب لشعراء العرب أن يقفوا عند الأطلال الدوارس يستوحونها؛ لأن الأحجار تنطق كما نطق الأحياء! ورب حجر يظل أبد الدهر ناطقا يقص على الناس القصص، جيلا بعد جيل، والناس أنفسهم يمضون إلى حيث يعلم الله ولا يعلم الناس.
9 شارع الكرداسي بناء قديم كسيح تكاد تتقوس جدرانه وتهوي سقوفه، لكنه جزء لا يتجزأ من حياتي ومن حياة رجال كثيرين، بل إنه جزء لا يتجزأ من تاريخ الأدب المصري الحديث. فكما ترتبط الحركات الأدبية أحيانا بهذا الصالون، أو ذاك المنتدى، فسترتبط الحركة الأدبية المصرية من بعض وجوهها بهذا البناء المتهافت 9 شارع الكرداسي؛ ففي حجراته قامت مشروعات وصدرت مطبوعات، واجتمعت حلقات الأدباء والمتأدبين يسمرون وينقدون.
لكن دار الزمان دورته، وضاق البناء على أصحابه، أو قل ضاق أصحابه به، فهجروه من قريب إلى بناء آخر أجمل وجها، وأفسح صدرا وأرقى موقعا.
وذهبت بعدئذ إلى 9 شارع الكرداسي لأقضي بعض شأني، فأخذتني وحشة؛ لأن المكان قد خلا إلا من المطبعة ترن بأصدائها في البناء الحالي، كأنها حشرجة المحتضر، وغدا أو بعد غد تزحف المطبعة إلى مكانها الجديد، ويصبح شارع الكرداسي قطعة من التاريخ. ومن يدري ماذا سيكون من أمره بعد ذلك؟ من يدري ماذا أثبت في أم الكتاب لهذا البناء الذي دوت جنباته حينا من الدهر بجد لا هزل فيه؟ قد تزول عنه الكتب لتحل محلها أكياس الفحم أو صفائح الزيت، فرب بيت صار بيتا مرارا، ضاحك من تتابع الأضداد!
ليتني أستطيع التفاهم مع هذا البناء الذي هجرناه، إذن لأرضيته بما أرويه من حق؛ وذاك أني ذهبت إلى بديله الجديد، فأحسست ببرودة عجيبة تدب في عظامي، ولا أعني برودة الجو، وإنما أعني برودة الروح. فآثرت أن أعود إلى العمل في 9 شارع الكرداسي حتى اللحظة الأخيرة، أين أين جمال الجسم من خفة الروح؟ لقد كان سقراط دميم الخلقة ومهبط الحكمة في آن معا.
فلو جاز لصداقة أن تنشأ بين إنسان وبناء، فلا شك أن صداقة حميمة قد توثقت عراها بيني وبين هذا البناء.
خبرة السنين
سئل سوفوكليز الشاعر المسرحي اليوناني مرة، وكانت السن قد بلغت به مبلغ الشيخوخة: «ما موقفك الآن إزاء الحب يا سوفوكليز؟ ألا تزال قادرا عليه؟» فأجاب: «صه! نشدتك الله لا توقظه في قلبي من جديد، فكم يسعدني أن أراني قد فررت من حبائله، فأحس كأنما فررت من مستبد متوحش مجنون!»
فإذا جعلنا لفظة «الحب» في هذه العبارة رمزا يشير إلى العاطفة في شتى ألوانها: من غضب شديد وحزن شديد ومقت شديد وحقد شديد وطموح شديد وحماسة شديدة، إلى آخر هذه العواطف التي يحتدم أوارها عادة في صدور الشباب، وتبرد نارها في صدور الشيوخ، ثم إذا جعلنا «سوفوكليز» في هذه العبارة ينطق بلسان الرجل إذا تقدمت به السن، كان لنا أن نضع السؤال والجواب السابقين في هذه الصورة الآتية: - في أي شيء جوهري يختلف الشيوخ عن الشباب؟ - في برودة العواطف بعد اشتعالها. •••
وفي برودة العاطفة تتلخص خبرة السنين؛ فالشيخ المجرب الذي خبر الأيام وعرك الحوادث لا يقف نفس الموقف الذي يقفه الشاب إزاء مشكلة بعينها، فلا يغضب أو يحزن أو يثور حين يغضب الشاب أو يحزن أو يثور. ليس الفرق بينهما اختلافا في الذكاء؛ لأن علماء النفس يحدثونك حديث اليقين، بأن ذكاء المرء لا يزيد بعد سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وإنما الذي يزيد بعد ذلك في المرء كلما تقدمت به الأعوام؛ هو الخبرة لا درجة الذكاء.
Bog aan la aqoon