قال: ليست نفاسة الحمل مانعة من أن يكون ثقيلا؛ فالحمار الذي ينوء تحت أثقاله لا يعبأ أن تكون أثقاله من ذهب أو من حطب.
قلت: ولكنك تستطيع أن تلقيه عن كاهلك إذا أردت.
قال: كيف أستطيع؟ إن رئتي لتعلوان وتهبطان في صدري كأنهما منفاخ الحداد لا يفتر عن النفخ؛ ليظل للنار وهجها واشتعالها، فلا مناص من أن تظل جذوة الحياة مشتعلة بين جنبي - رضيت أو كرهت - وقد أتمنى لهذه الجذوة المتأججة اللاذعة المحرقة أن تنطفئ، فتصبح رمادا تذروه الأعاصير كيف شاءت على يابس أو ماء.
قلت: وما لرئتيك وهذا الحمل الذي على كتفيك؟!
قال: العلاقة بينهما وطيدة وثيقة؛ فهذا الحمل أطرافه في جوفي، وهو مشدود هناك إلى أوتاده بما هو أوهى من نسيج العنكبوت. مشدود إليها بأنفاسي التي أرددها شهيقا وزفيرا، مشدود إليها بموجات خفية من هواء؛ فالويل لي من هذه الأنفاس الواهية التي تنسجها رئتاي خيوطا، فتشد بها هذا الحمل على كتفي لأنوء به، فأين أطراف هذا المنفاخ الذي ما ينفك يعلو في صدري، ويهبط كي أمسكه عن النفخ لحظة لتخمد الأنفاس، وتنحل الروابط وينفك الوثاق؟! فينزاح عن كاهلي هذا العبء الثقيل. إن أطرافه خفية، أمد البصر في جميع أقطاري فلا أراها، وأرهف السمع فلا أقع لها على حفيف أو رفيف. وكل ما أسمعه هو هذه النفخات تتوالى شهيقا وزفيرا ما ابيض لي نهار أو احلولك ليل ... إني لا أذكر الآن من ذلك الفيلسوف اليوناني الذي قيل عنه إنه ضاق صدرا بأنفاسه التي تتردد رغم أنفه، وكره أن تشعل له جذوة الحياة بهذا المنفاخ اللعين وهو راغم؛ فكتم أنفاسه حتى مات، لا أذكر اسمه الآن، لكني أكبره وأمجده، وأشعر إزاءه بالضآلة والصغار؛ لأنه رأى ففعل، وأنا أرى ثم لا أفعل شيئا.
قلت: ما هذا الذي تراه ولا تفعله؟
قال: أرى الحكمة في التخفف من هذا العبء الثقيل، ثم لا أفعل شيئا في سبيل هذا الخلاص. الحق أني لست أدري كيف يظل الإنسان مشدودا إلى ما ليس يرضى، ثم يظل مشدودا إليه رغم أنفه، وهو عالم كل العلم أن الروابط نفخات من هواء، يسد عليها الطريق فينتهي كل شيء؟!
قلت: كلا يا صاحبي، الروابط التي تشدك إلى حملك هذا أقوى جدا من هذه الأنفاس؛ فليست هي بنفخات من هواء كما ظننت، إنما هو الشعور بالواجب. نعم إنك تستطيع في أي لحظة شئت أن تتنكر لواجب الحياة؛ لتظفر براحة الجسد راحة أبدية، لكنه الجحيم بعينه أن تبث في نفسك القلق إذا ما تخليت عن واجب وجب عليك أداؤه بحكم وجودك.
قال: لقد حكمت الآلهة على «أطلس» - في الأسطورة اليونانية - أن يحمل السماء على كتفيه؛ حتى لا ينقض بناؤها، والسماء هي السماء بأنجمها الزواهر اللوامع. فهل رأيت واجبا أسمى وأمجد من أن تكلف حمل السماء على كتفيك؟ وحملها «أطلس» ثم ناء بحملها، حتى إذا ما جاءه «هرقل» يسأله عن مخبأ التفاحات الذهبية التي كلف بالبحث عنها في أركان الكون وبين جنباته، والتي قيل له عنها إن مخبأها ذاك لا يعرفه إلا «أطلس» حامل السماء، ما جاء «هرقل» إلى «أطلس» يسأله أين عساه أن يجد بغيته؟ حتى وثب «أطلس» إلى هذه الفرصة النادرة؛ للتخلص من عبئه الذي أنقض ظهره، وقال لهرقل: لست بمستطيع أن تجدها؛ لأن منالها عسير، فاحمل عني هذه السماء لحظة حتى أعود إليك بها. ورضي «هرقل» مسرورا بحمل السماء حتى يحقق له «أطلس» ضالته التي لقي العناء في سبيلها. وانطلق «أطلس» إلى حيث التفاحات الذهبية، ورآها هناك تلمع في بريق الشمس يحرسها أفعوان جبار عظيم، فتسلل وغافل الأفعوان وهو في غفوة، وخطف التفاحات وعاد مسرعا إلى حيث ترك «هرقل» في انتظاره يحمل السماء بدلا منه.
لكن «أطلس» حين اقترب من موضع هرقل، تذكر بشاعة الحمل الذي حمله على كتفيه هذه القرون الطوال، ترى هل يفي بوعده ويعطي هرقل تفاحاته الذهبية، ويسترد عبأه الباهظ؟ أم هل ينعم بهذه الحرية التي أتاحتها له الظروف فيخلص من عبئه ذاك إلى الأبد؟
Bog aan la aqoon