وأما العرض العام فهو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع لا بالذات، وهو أيضا كالأبيض لا كالبياض. وليس هذا العرض هو العرض الذى يناظر الجوهر كما يظنه أكثر الناس؛ فإن ذلك لا يحمل على موضوعه بأنه هو، بل يشتق له منه الاسم. وهذه الخمسة حملها حمل واحد، كما قد سبق لك مرارا. والعرض العام الذى ها هنا هو كالأبيض وكالواحد وما أشبه ذلك، فإنك تقول: زيد أبيض، أى زيد شىء ذو بياض، والشىء ذو البياض محمول حملا صادقا على زيد؛ والشىء ذو البياض ليس بعرض بالمعنى الذى يناظر الجوهر، بل البياض هو العرض بذلك المعنى. وكذلك تقول: إن الجسم محدث وقديم، وليس القديم إو المحدث جنسا ولا فصلا ولا خاصة ولا نوعا للجسم، بل من جملة هذا الصنف من المحمولات، وليس المحدث عرضا بهذا المعنى، وإلا لكان الجسم موصوفا بالعرض من غير اشتقاق، فكان الجسم عرضا؛ بل معنى العرض ها هنا العرضى، وإن كان ليس بعرض بالمعنى الآخر؛ فمن العرضى ما هو خاص ومنه ما هو عام؛ فإن العرضى بإزاء الذاتى والجوهرى، والعرض بإزاء الجوهر. والذاتى قد يكون عرضا كجنس العرض للعرض كاللون للبياض، وقد يكون جوهرا، والعرضى قد يكون عرضا وقد يكون جوهرا؛ وفى هذا الموضع إنما نعنى بالعرض العرضى.
ولم تعلم بعد حال العرض الذى هو نظير الجوهر، وهذا شىء لم يلتفت اليه أول من قدم معرفة هذه الخمسة على المنطق، بل جعل للعرض العام حدودا مشهورة، مثل قولهم: (( إن العرض هو الذى يكون ويفسد من غير فساد الموضوع أى حامله ))؛ ومثل هذا قولهم: (( هو الذى يمكن أن يوجد لشىء واحد بعينه وأن لا يوجد، وأنه الذى ليس بجنس ولا فصل ولا خاصة ولا نوع، وهو أبدا قائم فى موضوع )).
فلنتأمل هذه الحدود والرسوم المشهورة. فأما الأول فإن فيه وجوها من الخلل: أحدها أنه لم يذكر فيه المعنى الذى كالجنس له وقد أشرنا إلى مثل ذلك فى بعض حدود الفصل. والخلل الثانى أنه إن عنى بالكون والفساد حال ما يكون ويفسد فى الوجود، فالأعراض العامة الغير المفارقة ليست كذلك، وهم مقرون أن من العرض العام ماهو مفارق، ومنه ماهو غير مفارق. وإن عنى مايكون في الوجود والوهم جميعا، فقد استعمل لفظا مشتركا عنده؛ فإن لفظة " يكون " وقوعها على الموجود وعلى المتوهم عنده إنما هو بالاشتباه، وهذا مما حذروا عنه؛ وسيتضح لك ذلك فيما بعد.
وبعد ذلك، فإن من الأمور العرضية التى ليست بذاتية ما إذا رفع بالتوهم استحال أن يكون الشئ قد بقى موجودا غير فاسد، كما مر لك فيما سلف.نعم ربما لم يستحل أن يتوهمه الوهم باقيا بعده لم يفسد، وهذا غير مذكور في هذا الرسم. وتجد هذه المغامز كلها محصلة في الرسم الثاني؛ فإن كثيرا من الأعراض لازمة دائمة، والدائم لايكون ممكنا أن لايوجد إلا في الوهم؛ ولم يشترط الوهم، وفي اشتراط الوهم أيضا ما قلنا. وأما الرسم السلبى الثالث، فأن الشخص من الأعراض يشارك فيه، والطبائع، من حيث هى طبائع، لامن حيث هى كلية، فإن ألحق به أنه كلى بهذه الصفة، خص العرض العام. لكن صاحب هذا القول قد الحق به شيئا، وهو أنه قائم فى موضوع، وإنما ألحق هذا إذ ظن أن هذا العرض، الذي هو أحد الخمسة، وهو العرض الذي يناظر الجوهر. وقد قالوا: إن الفائدة في إلحاقه ذلك، هى أن يفرقوا بينه وبين اللفظ غير الدال، مثل قول القائل: شيصبان، وهذه خرافة؛ وذلك لأنه إنما يعنى بقوله(( الذي ليس بجنس )) اللفظ الدال على معنى كلى، ليس ذلك المعنى معنى جنس ولانوع ولافصل ولاخاصة؛ فلا شركة في هذا اللفظ الغير الدال؛ لأنه ليس يحد في لفظ العرض هذا المسموع،حتى إذا قال: إنه ليس بجنس ولانوع ولافصل ولاخاصة، شاركه في هذا اللفظ لفظ آخر لايدل على شئ، فيلزم إيراد الفصل بينه وبين ذلك. ولو كان إنما يعنى بهذا اللفظ من حيث هو مسموع، لكان يشاركه في أنه ليس بجنس ولافصل ولانوع ولاخاصة ألفاظ أخرى مسموعة مما هى دالة.
تمت المقالة الأولى من الفن الأول. ولواهب العقل أكمل الحمد والفضل كما هو له أهله
المقالة الثالثة من الفن الأول من الجملة الأولى
الفصل الأول في المشاركات والمباينات بين هذه الخمسة وأولها بعد العامة ما بين الجنس والفصل
Bogga 33