وقد جرت العادة بأن يسمى تعليم القياس علم التحليل. والسبب الحقيقي في ذلك أه الاستدلال بالحقيقة إنما يكون على مطلوب محدود. وأما الذي يكون على غير ذلك السبيل، أعني أن يكون القياس، ينعقد اتفاقا فيؤدي إلى نتيجة من النتائج لم تطلب، ولم يجمع لها القياس، فهو شيء غير صناعي، وإنما هو أمر بختي؛ بل القياس الصناعي هو أن يكون لك غرض، فتطلب ما ينتجه أو تنتج مقابله، وما ينتج الشيء علة له من حيث هو نتيجة، فيكون نظرك حينئذ مبتديا من معلول إلى علة، ويكون مع ذلك نظرك في جملة تطلب أن تفصلها بإدخال الوسيط كم ستعلمه من أجزائها. ويكون نظرك مبتديا من واحد يحلله إلى كثرة، ويطلب له مباديء كثيرة. وهذا النوع من النظر يسمى التحليل بالعكس، كما أن مقابله يسمى التركيب. فسمي هذا الكتاب كتاب التحليل بالعكس لهذا الوجه، لا لوجوه يخترعها قوم بالتكلف المشتط فيه. والدليل على صحة هذا القول أنك ستعلم عن قريب أن جميع ما يسمى قياسا في هذا الكتاب إنما سمي قياسا بعد أن يوضع نفس مطلوب ما ويقايس به أجزاء القول الناتج إياه، حتى يتعين الأصغر، والأوسط، والأكبر، والصغرى، والكبرى. وذلك لا يتعين إلا وقد يعين المطلوب كما ستعلم. وإنه إن كان قول ينتج شيئا ، ولكن ليس ينتج ما يجعل أجزاؤه بالقياس إليه هذه الأجزاء، أعني الصغرى والكبرى والأصغر والأوسط والأكبر، لم يسم ذلك قياسا .
الفصل الثاني (ب) فصل في أن المنطق آلة في العلوم الحكمية لا يستغنى عنها
قد كان سلف لك الوقوف على موضوع المنطق، وبيان أن الغلط كيف يقع فيه، وسلف لك جملة أن المنطق كيف يكون جزءا للحكمة، وكيف يكون آلالة، وأن لا تناقض بلين من يجعله جزءا، وبين من يحعله آلة، فإنه إذا أخذ موضوع المنطق من حيث هو أحد الموجودات، وكانت الفلسفة واقعة علة ما هو علم بالموجودات كيف كانت، كان المنطيق جزءا من الفلسفة يعرف أحوال موجودات ما حالها وطبيعتها أن يعرف كيف يكتسب بها المجهول أو يعين فيه. فمن حيث أن هذه الحال أمر خاص لبعض الموجودات، أو عارض ذاتي له. أو أمر مقوم إياه، فهو نظر ما في الموجود من حيث هو موجود ما بحال، فهو علم ما من المعلوم.
ولكن لما عرض ثانيا أن كانت هذه المعرفة من أمر هذا الموجود تعين في معرفة أمور أخرى، فتكون هذه المعرفة التي هي بنفسها معرفة ما، آلة لمعرفة أخرى، بل جل الغرض فيها معونتها في معرفة أخرى. فكونها معرفة بجزء من الموجودات، هو كونها جزءا من الفلسفة، وكونها معرفة بجزء من الموجودات من حيث تعين في معرفة أخرى، ولتكن تلك المعونة هو كونه آلة. فكون المنطق جزءا يكون أعم من كونه آلة، وليس هو جزءا من الشيء الذي هو آلة له فإنه ليس جزءا لما هو آلة له، وهي العلوم التي تكال بالمنطق وتوزن بعبارة؛ بل هو جزء من العلم المطلق الذي يعم هذه العلوم كلها. وكونه منطقا هو من حيث هو آلة، ومن حيث هو آلة قد يحمل عليه أيضا معنى أعم من الآلة؛ كما أن الإنسان من حيث هو إنسان قد يحمل عليه الحيوان، ويقال أنه حي. وليس افتراق كونه جزءا وكونه آلة افتراقا بمعنيين متباينين على الإطلاق، بل معنيين أحدهما أحص والآخر أعم. فإن كل ما هو آلة لعلوم كذا فهو جزء من العلم المطلق، وليس ينعكس، فهكذا يجب أن يتصور. وإن كان ما قاله فاضل المتأخرين في نصرة من رأى أن المنطق آلة، وليس بجزء، هو أتم ما يمكن أن يقال فيه.
Bogga 206