واعلم أن حال المحمول فى نفسه عند الموضوع لا التى بحسب بياننا وتصريحنا به بالفعل أنه كيف هى له ولا التى تكون فى كل نسبة إلى المحمول، بل الحال التى للمحمول عند الموضوع بالنسبة الإيجابية من دوام صدق أو كذب أو لا دوامهما تسمى مادة. فإما أن يكون الحال هو أن المحمول يدوم ويجب صدق إيجابه فيسمى مادة الوجوب كحال الحيوان عند الإنسان، أو يدوم ويجب كذب إيجابه ويسمى مادة الامتناع كحال الحجر عند الإنسان، أو لايدوم ولا يجب أحدهما ويسمى مادة الإمكان كحال الكتابة عند الإنسان. وهذه الحال لاتختلف فى الإيجاب والسلب، فإن القضية السالبة توجد لمحمولها هذه الحال بعينها فإن محمولها يكون مستحقا عند الإيجاب أحد الأمور المذكورة، وإن لم يكن أوجب، والكلية الموجبة حالها عند الكلية السلبة إذا اشتركا فى الموضوع والمحمول والشروط المعدودة أن السالب منهما فى الواجب هو الكاذب وحده دون الموجب، وأما فى الممتنع فإن الموجب هو الكاذب دون السالب، وفى الممكن فكلاهما كاذبان. وأما الجزئيان فحكمهما فى الواجب والممتنع حكم الكليين. وأما فى الممكن فى المشهور فالمشهور أنه يجب أن تصدقا جميعا، لكن البين من أمرهما أنهما قد يصدقان فى مادة الممكن كقولنا. بعض الناس كاتب وليس كل الناس بكاتب. وأما أن ذلك يجب وجوبا فهو أمر لا يبين بنفسه للمبتدأ فإنه لا يجب عنده أن يكون المحمول الذى من مادة الممكن موجودا لا محالة فى بعض الموضوع معدوما فى بعضه، فإن المبتدئ لا يستنكر أن يكون شئ هو من جملة الممكنات البعيدة الغريبة، ثم يتفق أن لا يوجد البتة لشئ من أشخاص النوع فى زمن من الأزمنة. والذى يتكلف أن يوجب هذا ويبينه فإنما يبينه بمقدمات غير معلومة للمنطقى ثم عساه إنما يمكنه إثبات ذلك إن أمكنه فى الصنائع والحرف الداخلة فى منفعة الإنسان. وأما فى أمور خارجة عن ذلك فما أرى أن البرهان اليقينى يقوم للمتعلم المنطقى عليه. وعلى أن المنطقى لا يحتاج فى صناعته أن يعتقد وجوب هذا بل يكفيه من ذلك معرفته بأن الجزئيتين الداخلتين تحت التضاد قد تصدقان جميعا فى مواد إمكانية مستقرئا فى ذلك مواد إمكانية ظاهرا من أكثرها أنها لا تعم سلبا ولا إيجابا. وأما المختلفان فى الكم دون الكيف ولتسميا متداخلتين فنجد المتداخلتين منهما بالإيجاب. تصدقان فى الواجب والمتداخلتين فى السلب تصدقان فى الممتنع وكلاهما يقتسم الصدق والكذب فى الممكن، لكن الجزئية تكون صادقة على الاعتبار المذكور، وتأمل ذلك بنفسك. وليس إذا كان موضوعك كليا فقد صار حكمك بذلك كليا عليه ما لم تحكم بأنه موجود فى كله أو غير موجود، فإذا لم تحكم بذلك فقد حكمت على الطبيعة الموضوعة للعموم فقط. وهذه الطبيعة فى نفسها معنى، وأنها مأخوذة عامة معنى، وأنها مأخوذة خاصة معنى. وهى فى نفسها تصلح لاعتبار جميع ذلك، ولو كانت لا تصلح للخصوص لم تكن تصلح أن تكون مثلا إنسانية واحدة بها زيد إنسان واحد، ولو لم تكن تصلح عامة فى العقل ما كانت بحيث يشترك فيها كثيرون. ثم الأمور التى تلحق الإنسانية أن ألحقت بها وهى إنسانية بلا زيادة شرط كان ذلك الإلحاق إلحاقا ليس لنا معه أن نقول إنها تلحق بها فى عمومها أو خصوصها، بل أنها صالحة للأمرين جميعا، لكنها كانت ملحقة به خصوصها فقد ألحقت بها فى خصوصها دون عمومها. فلا يجب أن تكون صادقة على عمومها وإن ألحقت بها فقط. فلا يخلو إما أن يكون تصحبها مع العموم ملحقة بها فتكون حينئذ صاحبة إياها فى خصوصها فما لحق العام لحق الخاص، وإما أن لا يصحبها هناك، بل يتبر أعنها ويكذب عليها فيصدق لا محالة فى خصوصها فإنها إن كانت تكذب أيضا فى خصوصها فهى مما لا يصدق عليها ألبتة، وأعنى بقولى يصدق عليها فى عمومها أى يصدق على جميع ما يعمها ليس أنها يصدق عليها من حيث هى معنى عام فإنها حينئذ كشئ واحد يصدق عليه مالا يتعدى إلى مخصوصاته. فإنه من حيث هو عام هو كلى ونوع وغبر ذلك، وهذه أمور تلحقه دون ماتحته.
ولسنا نشير بما نقوله إلى ما يلحقه من حيث هو عام، بل إلى ما يصاحبه فى عمومه حملا على موضوعاته. وغرضنا ما بيناه من أن الحكم على الكلى من غير اشتراط التعميم والتخصيص ليس يوجب التعميم بوجه، ولا أيضا فيه دلالة لفظية على التخصيص. ولكن الدلالة على التخصيص لازمة لدلالته من خارج لا أنها نفس دلالة الحكم فيه، كما أن لكل قضية لوازم من العكس وغير ذلك مما ستعلمه ليست هى نفس المدلول عليها بالقضية.
Bogga 170