وأما التقابل، فليس جنسا لما تحته بوجه من الوجوه، وذلك لأن المتضايف، ماهيته أنه مقول بالقياس إلى غيره، ثم يلحق هذه الماهية أن تكون مقابلا ليس أنها تتقوم بهذا . فإنه ليس هذا من المعانى التى يجب أن تتقدم فى الذهن أولا، حتى يتقرر فى الذهن، أن الشىء ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره، بل إذا صار الشىء مضايقا، لزم فى الذهن أن يكون على صفة التقابل. فالذاتية بشرائطها؛ غير موجودة بين التقابل وبين الأشياء الى هى كالأنواع للتقابل، حتى يكون كونها متقابلات داخلة بقوة أو بفعل فى الحدود هذه كلها. والقوانين المفيدة فى هذه الأعراض ستشرح لك فى مواضع أخرى. والآن، فينبغى أن نستأنف الكلام من رأس، فنقول: أما الفرق بين المضاد والمضاف، فهو أن المضاف مقول الماهية بالقياس، والمتضادات ليست كذلك؛ ولذلك لا نقول: إن الخير إنما هو خير لأجل قياسه إلى الشر، كما نقول: إن الضعف ضعف بسبب قياسه إلى النصف، بل نقول إن الخير مضاد للشر، ثم حينئذ نقول: وهو من حيث هو مضاد فهو مضاف. ومما يفارق به المضاد المضاف، أن المتضادات لا تخلو إما أن لا يتعرى الموضوع فيها من أحد الطرفين فلا يكون بينهما واسطة، وقد يتعرى منهما فيكون بينهما واسطة؛ مثال الأول، الصحة، وهى ملكة فى الجسم الحيوانى يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعى غير مؤوفة. وسواء نسبت إلى البدن كله، أو إلى عضو واحد، وسواء كانت بالحقيقة أو بحسب الحس، فإن الذى يحسب الحس، رسمه بحسب الحس والمرض، حالة أو ملكة مقابلة لتلك، فلا تكون أفعاله من كل الوجوه كذلك، بل يكون هناك آفة فى الفعل، ولا يخلو الموضوع عنهما ألبتة، فكذلك الفردية والزوجية. والذى ظن أن بين الصحة والمرض وسطا هو حال لا صحية ولا مرضية، فإنما ظن ذلك لأنه نسى الشرائط التى ينبغى أن تراعى فى حال ما له وسط وما ليس له وسط؛ وتلك الشرائط أن يفرض الموضوع واحدا بعينه فى زمان واحد بعينه، وأن يكون الجزء واحدا بعينه، والجهة والاعتبار واحدة بعينها. فإذا فرض كذلك، وجاز أن يخلو الموضوع عن الأمرين كان هناك واسطة، فإن فرض إنسان واحد، واعتبر منه عضو واحد، أو أعضاء معينة ، فى زمان واحد، وجاز أن لا يكون معتدل المزاج سوى التركيب، بحيث تصدر عنه جميع الأفعال التى تتم بذلك العضو أو الأعضاء سليمة، وأن لا يكون كذلك، فهناك واسطة. وإن كان لا بد من أن يكون معتدل المزاج سوى التركيب، أولا يكون معتدل المزاج سوى التركيب، إما لأنه أحدهما دون الأخر، أو لأنه لا واحد منهما، فليس بينهما واسطة. ومثال الثانى السواد الصرف، والبياض الصرف، فإن بينهما وسائط ألوان، وقد يخلو الموضوع من كليهما إلى الوسائط، وربما خلا إلى العدم بأن يصير مشفا، فتكون الواسطة، سلب الطرفين مطلقا من غير إثبات واسطة خلطية من الطرفين. وهذه الواسطة الخلطية، ربما كان لها اسم محل كقولك الأدكن والفاتر، وربما لم يكن لها اسم محصل، بل إنما يدل عليها سلب الطرفين، من غير أن يعنى بسلب الطرفين السلب الذى لا إثبات تحته، بل يراد به إثبات، كقولهم: لا عادل ولا جائر. وإذا عنى بالسلب سلب لا يشير إلى إثبات متوسط، دل عليه بواسطة غير خلطية، كقولهم: السماء لا خفيفة ولا ثقيلة، والهواء لا أبيض ولا أسود، فالأضداد تنقسم إلى هذين القسمين وبهذا يخالف التضاد، تقابل العدم والملكة، لأن المتقابلين بالعدم والملكة لهما موضوع واحد، من شأن كل واحد منهما أن يكون فيه، فتكون فيه الملكة ويكون فيه العدم، ولكن ليس كيف اتفق، بل إنما يكون فيه العدم بأن يعدم الملكة من موضوع، وقتا من شأنها أن تكون موجودة فيه للموضوع، كما يعدم البصر فى الموضوع، وقتا من شأنه أن يكون له ملكة البصر، وتسقط الأسنان وقتا من شأنها أن لا تسقط فيه،بل تبقى. فهنالك يكون أحدهما عمى، والآخر دردا، فإن الجرو الذى لم يفقح، لا يقال له أعمى، ولا الطفل أيضا ساعة يولد، يقال له أدرد، بل إذا حان أن يكون له بصر وسن، ولم يكونا، فهو أعمى وأدرد. وهذا الشرط غير موجود فى قسمى تقابل التضاد، فإن الموضوع المشترك للضدين اللذين لا واسطة بينهما، يجوز فى كل وقت أن ينتقل من أحدهما إلى الآخر إلا أن يكون طبيعيا لا يفارق، كبياض تقنس.والموضوع المشترك للضدين ذوى الواسطة، فقد يخلو جميعا إلى الواسطة، إن لم يكن أحدهما له طبيعيا، ولا واسطة بين العدم والملكة، ولا انتقال من العدم إلى الملكة، بل من الملكة إلى العدم. وافهم بعد ذلك، أنا قلنا عدم وملكة أو غير ذلك من المتقابلات، فلسنا نشير من العدم والملكة ومن سائر المتقابلات إلا إلى طبائعها، لا إليها، من حيث وجودها للموضوع، أو كون الموضوع متصفا بها، فليس العمى " وأن يعمى " . والبصر، " وأن يبصر " ، شيئا واحد. وكذلك يقال: زيد يعمى، ولا يقال: زيد عمى، ويكون العمى أيضا لزيد معنى يقتضى نسبة العمى إلى زيد. وأما العمى، فهو معنى مفهوم بنفسه، أو مفهوم بسبب ما عدمه، أعنى البصر إذ هو عدم البصر. فهذه ليست هى المتقابلات الأول، بل أمور تلحق المتقابلات، فيعرض لها أن تكون متقابلة.
وكذلك الحكم فى الموجبة والسالبة، فإن ما يقع عليه الموجب والسالب أمر أو معنى لا قول، بل هو الموضوع، كقولك: زيد، فى قولك: زيد جالس، أو زيد ليس بجالس. وأما ما يوجب ويسلب نفسه، فهو أيضا ليس بقول، بل هو محمول فى القول، كقولك: جالس وليس بجالس. فليس إذن الشئ الذى له تقابل بالإيجاب والسلب، هو الإيجاب والسلب؛ هذا إن أخذنا التناقض موجبه وسالبه. فإن أخذناه إيجابا وسلبا، كان الموضوع، لذلك، والموصوف به، وضعا ووصفا، على قياس ما كان للعمى والبصر، هو القضية. فإنها هى التى فيها الإيجاب، فيشتق لها منها الاسم، فيقال: موجبة، أو السلب، فيقال: سالبة، فيكون المتقابلان فى الإيجاب والسلب ليسا هما الإيجاب والسلب، ولأن الإيجاب إيجاب فى قضية، فليست القضية إيجابا.
لذلك فإذا عرف هذا، فقد عرف حال التضاد، وحال العدم والملكة، وكان قد عرف الفرق بين المضاف وبين التضاد، فليفرق بين تقابل المضاف، وتقابل العدم والملكة فنقول: أما العدم والملكة فليس أحدهما مقولا بالقياس إلى الآخر، أما الملكة فليست مفتقرة فى تصورها إلى العدم ألبتة، فإنها قد تتصور ماهيتها فى نفسها؛ وأما العدم كالعمى، فإنها وإن كانت لا تتصور إلا بتصور الملكة، فإنها ليست مقولة الماهية بالقياس إلى الملكة، فإنها غير صائرة عمى بالقياس إلى البصر، حتى يكون العمى إنما هو عمى لأجل قياسه إلى البصر، وإن كان العمى هو عدم البصر.
Bogga 143