107

فأما الاستعمال العامى فلا يختص بالمعنى الذى يراد فى هذه المقولة؛ بل قد يقولون: إن قعود فلان شبيه بقعود فلان؛ وإن احتراق النفط شبيه باحتراق دهن البلسان؛ بل لايمتنعون عن القول بأن طول زيد شبيه بطول عمرو؛ فلا أجد التعارف أيضا يعمل فى أمر الشبيه إلا ما يعمله فى أمر السؤال بكيف. فإن قال قائل: إنه فى بعضها مستعار وفى بعضها حقيقى؛ فنسلم له أنهم إذا قالوا: شبيه فى الطول، دروا أنهم يستعيرون؛ لكنهم إذا قالوا: قعود شبيه بقعود، لم يذهبوا إلى أنهم يستعيرون شيئا؛ وكذلك إذا قالوا: احتراق شبيه باحتراق؛ بل قالوا ذلك وهم محققون، وليس يمكن أن يقال: ليس لكم ذلك؛ بل إنما يكون هذا اللفظ مستعارا فى شئ، وحقيقيا فى شئ بحسب إرادتهم؛ فإن اللفظ لا يستحق شيئا من ذلك فى نفسه، بل إنما يكون ذلك له بحسب التعارف. والتعارف فى المستعار هو أن يقول القائل ذلك، وعند القائل أنه لفظ غيره استعير له لمشاكلة وتمثيل. فإما حيث لا يكون عند القائل كذلك؛ بل يكون قوله: إن احتراقا شبيه باحتراق، كقوله: إن حرارة شبيهة بحرارة، فلا يكون لنا من هذا التعارف سبيل إلى معرفة ما يدل عليه بهذا اللفظ دلالة حقيقية: ومع هذا فإن من يدعى فى لفظة ما اشتراكا واستعارة، فعليه أن ينص على المعنى المقصود به فى الموضع الذى يستعمله، وخصوصا إذا كان ظاهر التلفظ بعيدا عن أن يتميز للسامع معناه المقصود تميزه لو قال: عين الماء، وعين الشمس، وعين البصر.

ويجب أن نكون قد أعطينا معنى الشبيه حين نخاطب باستعماله ههنا، وقصارى ما فهمونا من لفظ الشبيه بالاصطلاح الخاصى، وغاية ما ينصون عليه هو أن يقولوا: إنا نعنى به الموافق فى الكيفية.

وإن كان قولنا: إن الكيف هو ما يقال له، شبيه بالقول النقلى لا المتعارف عند الجمهور؛ وكان تفسير ذلك النقلى هو الذى معناه الموافق فى الكيف، فلا شك فى أن الكيف نفسه يجب أن يكون أعرف من الموافق فى الكيف؛ فيكون من قال: إن الشبيه هو الموافق فى الكيف، وقد عرف الشبيه بالكيف، وهو يريد أن يعرف الكيف بالشبيه فلا يستفيد المتعلم من هذا البيان شيئا. إنما يمكن ههنا حيلة واحدة؛ وذلك أن يكون الكيف وقابل الشبه تجمع لنا من الموجودات معانى مختلفة. ثم إذا فصلنا هذه المقولات، وعرفنا ما جعلناه مخالفا للكيف، واستثنيناها، بقى لنا المنحصر فى مقولة الكيف ما يجاب به عن سؤال كيف مما ليس من تلك الأخرى وما تقال به المشابهة مما ليس تلك، فيتخيل الذهن أمورا دون أمور، وأن يكون ههنا وجه آخر من النظر، وهو أن تجعل حقيقة البحث عن الشئ أنه كيف هو فى نفسه ما يقتصر على نفسه وحاله؛ فإذا كان الوصف مما يحوج إلى اعتبار أمر آخر فيه غير نفسه وغير حاله حتى يقال إنه كيف هو؛ فكأنه قد عدل عن الواجب؛ فإن السائل إنما رام أن يخبر عن أمر فى نفسه إذ قال كيف هو فى نفسه دون أمر يكون له لغيره فى نفسه.

فيشبه أن يكون الوضع وغير ذلك من المقولات إنما صلح أن يقال له كيف، إما بالنقل والوضع الثانى، وإما بالتوسع فلذلك صار لأن يجاب به عن كيف الشئ؛ ثم استمر هذا التوسع وتقرر عند الجمهور كالأصل. فإن الوضع ليس معنى يتصور للشئ ما لم تتصور له أجزاء هى غيره وجهات خارجة، ثم يتصور له وضع. فالوضع مخالف للمعنى الذى يكون للشئ فى نفسه بنفسه الذى بالحرى أن يكون البحث بكيف مقصورا عليه. فهذا، وإن كان قد يمكننا أن نقوله، فإنا نكون قد تعدينا أيضا التعارف إلى نوع من النظر والاستدلال.

وأما الكم فإن التعارف يشبه أن يدل على أنه غير صالح فى جواب كيف الشئ؛ وإن أجيب فإنما هو مجاز.

Bogga 111