وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ فجمع بين الكتابين الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم والكتاب المقارن لأعمالهم فأخبر أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم ونبه بكتابته لها على ذلك قال نكتب ما قدموا من خير أو شر فعلوه في حياتهم وآثارهم ما سنوا من سنة خير أو شر فاقتدي بهم فيها بعد موتهم وقال ابن عباس في رواية عطاء: "آثارهم ما أثروا من خير أو شر" كقوله: ﴿يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ فإن قلت قد استفيد هذا من قوله قدموا فما أفاد قوله: ﴿آثَارَهُمْ﴾ على قوله قلت أفاد فائدة جليلة وهو أنه سبحانه يكتب ما عملوه وما تولد من أعمالهم فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر وهو أثر أعمالهم فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها وهذا القول أعم من قول مقاتل وكأن مقاتلا أراد التمثيل والبيان على عادة السلف في تفسير اللفظة العامة بنوع أو فرد من أفراد مدلولها تقريبا وتمثيلا لا حصرا وإحاطة وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: "نزلت هذه الآية في بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا بل نمكث مكاننا واحتج أرباب هذا القول بما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ فقال رسول الله ﷺ: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم" وقد روى مسلم في صحيحه نحوه من حديث جابر وأنس وفي هذا القول نظر فإن سورة يس مكية وقصة بني سلمة بالمدينة إلا أن يقال هذه الآية وحدها مدنية وأحسن من هذا أن تكون ذكرت عند هذه القصة ودلت عليها وذكروا بها عندها إما من النبي ﷺ وإما من جبريل فأطلق على ذلك النزول ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك نزلت مرتين والمقصود أن خطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم قال عمر بن الخطاب: "لو كان الله سبحانه تاركا لابن آدم شيئا لترك ما عفت عليه الرياح من أثر" وقال مسروق: "ما خطا رجل خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة" والمقصود أن قوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ وهو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها وحفظها لها والإحاطة بعددها وإثباتها فيه وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ وقد اختلف في الكتاب ههنا هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ على قولين فقالت طائفة المراد به القرآن وهذا من العام المراد به الخاص أي ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه كقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ ويجوز أن يكون من العام المراد به عمومه والمراد أن كل شيء ذكر فيه مجملا ومفصلا كما قال ابن مسعود: "وقد لعن الواصلة والمستوصلة ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه فقالت امرأة لقد قرأت القرآن فما وجدته فقال إن كنت قرأتيه فقد وجدته قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ولعن رسول الله ﷺ الواصلة والمستوصلة" وقال الشافعي ما نزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها وقالت طائفة المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس وكان هذا القول أظهر في الآية والسياق يدل عليه فإنه قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾ وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأكل والتقدير الأول وأنها لم تخلق سدى
1 / 40