سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ "والمقصود أن قوله على علم عندي إن أريد به علمه نفسه كان المعنى أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة التي توصلت بها إلى ذلك وحصلته بها وإن أريد به علم الله كان المعنى أوتيته على ما علم الله عندي من الخير والاستحقاق وإني أهله وذلك من كرامتي عليه وقد يترجح هذا القول بقوله أوتيته ولم يقل حصلته واكتسبته بعلمي ومعرفتي فدل على اعترافه بأن غيره آتاه إياه ويدل عليه قوله تعالى: ﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾ أي محنة واختبار والمعنى أنه لم يؤت هذا لكرامته علينا بل أوتيه امتحانا منا وابتلاء واختبارا هل يشكر فيه أم يكفر وأيضا فهذا يوافق قوله: ﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك ولكن ظن أنه لكرامته عليه فالآية على التقدير الأول تتضمن ذم من أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه وذلك محض الكفر بها فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة وأنها من المنعم وحده فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدا لها فإذا قال أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك فقد أضافها إلى نفسه وأعجب بها كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا من أشد منا قوة فهؤلاء اغتروا بقوتهم وهذا اغتر بعلمه فما أغنى عن هؤلاء قوتهم ولا عن هذا علمه وعلى التقدير الثاني يتضمن ذم من اعتقد أن إنعام الله عليه لكونه أهلا ومستحقا لها فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله أن ينعم عليه وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره فقد جعل سببها ما اتصف به هو لا ما قام بربه من الجود والإحسان والفضل والمنة ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر ليس ذلك جزاء على ما هو منه ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب فهو المنعم بالمسبب والجزاء والكل محض منته وفضله وجوده وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير وعلى التقديرين فهو لم يضف النعمة إلى الرب من كل وجه وإن أضافها إليه من وجه دون وجه وهو سبحانه وحده هو المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابها فأسبابها من نعمه على العبد وإن حصلت بكسبه فكسبه من نعمه فكل نعمة فمن الله وحده حتى الشكر فإنه نعمة وهي منه سبحانه فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته وشكره نعمة منه عليه كما قال داود: "يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك علي تستوجب شكرا آخر فقال: الآن شكرتني يا داود" ذكره الإمام أحمد وذكر أيضا عن الحسن قال: قال داود: "إلهي لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهر كله لما أدّوا مالك علي من حق نعمة واحدة والمقصود أن حال الشاكر ضد حال القائل إنما أوتيته على علم عندي ونظير ذلك قوله: ﴿لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ قال ابن عباس: "يريد من عندي" وقال مقاتل: "يعني أنا أحق بهذا" وقال مجاهد: "هذا بعملي وأنا محقوق به" وقال الزجاج: "هذا واجب بعملي استحقيته" فوصف الإنسان بأقبح صفتين إن مسه الشر صار إلى حال القانط ووجم وجوم الآيس فإذا مسه الخير نسي أن الله هو المنعم عليه المفضل بما أعطاه فبطر وظن أنه هو المستحق لذلك ثم أضاف إلى ذلك تكذيبه بالبعث فقال:: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ ثم أضاف إلى ذلك ظنه الكاذب أنه إن بعث كان له عند الله الحسنى فلم يدع هذا للجهل والغرور موضعا.
1 / 38