ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، أقبل إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الضلال، وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي اعتقده هدى وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ .
فصل: ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره وأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين وتشكيكات المشككين وتكلفات المتنطعين واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم وطريقه القويم فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور ومنبع كل خير وأساس كل هدى ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان فاقتفوا طريقهم وركبوا مناهجهم واهتدوا بهداهم ودعوا إلى ما دعوا إليه ومضوا على ما كانوا عليه ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر وأن الأمر أنف فمن شاء هدى نفسه ومن شاء أضلها ومن شاء بخسها حظها وأهملها ومن شاء وفقها للخير وكملها كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد فأثبتوا في ملكه مالا يشاء وفي مشيئته ما لا يكون ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته ومشيئته وخلقه والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام ما تكلم ولا يتكلم ولا أمر ولا يأمر ولا قال ولا يقول إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق ولا استوى على عرشه فوق سماواته ولا ترفع إليه الأيدي ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا ينزل الأمر والوحي من عنده وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.
فصل: ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد وقدرته واختياره وزعمت أن حركته الاختيارية ولا اختيار كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركات الأمواج وإنه على الطاعة والمعصية مجبور وإنه غير ميسر لما خلق له بل هو عليه مقسور ومجبور ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين ولمناهجهم مقتفين فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه وحققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق وإنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد ولا هو له بمقدور وإنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق وهو على كل شيء قدير فكلف عباده بأفعاله وليسوا عليها قادرين ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة لها فاعلين ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد فقالوا ليس في الكون
1 / 3