الفن الرابع من الطبيعيات فى الأفعال والانفعالات
مقالتان
قد فرغنا من تعريف الأمور العامة للطبيعيات، ثم من تعريف الأجسام والصور والحركات الأولية فى العالم واختلافها فى طبائعها، ثم من تعريف أحوال الكون والفساد وعناصرها، فحقيق بنا أن نتكلم عن الأفعال والإنفعالات الكلية التى تحصل عن الكيفيات العنصرية بمعاضدة من تأثيرات الأجسام السماوية، فإذا فرغنا من ذلك شرعنا حينئذ فى تفسير أحوال طبقات الكائنات، مبتدئين بالآثار العلوية والمعدنيات، ثم ننظر فى حال النفس. فإن النظر فى النفس أعم من النظر فى النبات والحيوانات، ثم ننظر فى النبات ثم فى الحيوانات.
ونختم هذه الجملة الطبيعية.
Bogga 201
المقالة الأولى من هذا الفن تسعة فصول
الفصل الأول فى طبقات العناصر
هذه العناصر الأربعة تشبه أن تكون غير موجودة على محوضتها وصرافتها فى أكثر الأمر. وذلك لأن قوى الأجرام السماوية تنفذ فيها، فتحدث فى السفليات الباردة حرا يخالطها، فتصير بذلك بخارية ودخانية، فتختلط بها نارية وهوائية. وترقى إلى العلويات أيضا أبخرة مائية وأدخنة أرضية، فتخلطها بها، فيكاد أن تكون جميع المياه وجميع الأهوية مخلوطة ممزوجة.
ثم إن توهمت صرافة فيشبه أن تكون للأجرام العلوية من النارية. فإن الأبخرة والأدخنة أثقل من أن تبلغ ذلك الموضع بحركاتها. واذا بلغت فما أقوى تلك النار على إحالتها سريعا.
ويشبه أن يكون باطن الأرض البعيد من أديمها إلى غورها قريبا من هذه الصفة. فإن لم يكن بد من أن يكون كل جزء من النار والأرض كائنا فاسدا باطنه وظاهره إلا أن ما يخلص إلى مجاورة الفلك من النار يمحض، ولا تكسر محوضته بشائب.
Bogga 202
وكذلك ما يخلص إلى المركز من الأرض يشبه المحض، فلا ينفذ فيه تأثير السماويات نفوذا يعتد به، ولا ينفذ إليه شائب؛ إذ لا يقبل رسوبا إلى ذلك الحد.
فيشبه لذلك أن تكون الأرض ثلاث طبقات: طبقة تميل إلى محوضة الأرضية وتغشاها طبقة مختلطة من الأرضية والمائية هى طين؛ وطبقة منكشفة عن الماء جفف وجهها الشمس، وهو البر والجبل. وما ليس بمنكشف فقد ساح عليه البحر، وهو أسطقس الماء.
ويستحيل أن يكون للماء أسطقس وكلية غير البحر. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون باطنا غائرا، أو ظاهرا. فإن كان ظاهرا فهو لا محالة بحر ليس غير البحر.
وإن كان باطنا لم يخل إما أن يكون مستقرا فى الوسط، أو منحازا إلى بعض الجنبات. فإن كان مستقرا فى الوسط، فإما أن يكون بالطبع، فتكون الأرض أخف من الماء، وهذا محال؛ وإما بالقسر، فيكون ههنا قاسر للماء إلى حفر غور الأرض والانحياز فيه، وهذا أيضا محال.
وإن كان منحازا فى جنبة واحدة، فتكون كلية الماء محصورة فى بقعة صغيرة من الأوض وكلية الماء لا تقل، لا محالة، عن الأرض، إن لم تزد عليه. ثم يكون مقدار ماء البحر غبر قاصر عن مبلغه. فلم لا يكون البحر كلية دونه؟ ولم لا تفيض الأنهار فى «طرطاوس»؛ بل فى البحر لا غير، ولا يوجد إلى «طرطاوس» مغيض؟
Bogga 203
على أن لا نشك أن فى الأرض أغوارا مملوءة، إلا أنها لا تبلغ فى الكثرة مقادير البحار؛ ولا الأرض يكثر فيها التجويفات كثرة يكون لها تأثير بالقياس إلى كلية الأرض، كما ليس للجبال تأثير فى كريتها.
والهواء أيضا فهو طبقات: طبقة بخارية، وطبقة هواء صرف، وطبقة دخانية. وذلك لأن البخار، وإن صعد فى الهواء صعودا، فإنه إنما يصعد إلى حد ما. وأما الدخان فيجاوزه ويعلوه؛ لأنه أخف حركة وأقوى نفوذا لشدة الحرارة فيه. وأعنى بالبخار ما يتصعد من الرطب، من حيث هو رطب، وأعنى بالدخان ما يتصعد عن اليابس من حيث هو يابس. ولأن البخار، بالحقيقة، على ما بيناه، ماء متخلخل متصغر الأجزاء، وطبيعة الماء أن يبرد بذاته، ومن صورته، إذا زال عنه المسخن وبعد عهده به، فيجب أن يكون الجزء البخارى من الهواء باردا بالقياس إلى سائر الهواء. لكن ما يلى الأرض منه يسخن بمجاورة الأرض المسخنة بشعاع الشمس المستقر عليها استقرار الكيفيات لا الأجسام. وما يبعد عنه يبرد. فتكون طبقة الهواء السافلة بخارا يسخن بمجاورة الشعاع، ثم تليه طبقة بخارية باردة، ثم يليه هواء أقرب إلى المحوضة، ثم يليه هواء دخانى، وكأنه خلط من هواء ونار وأرض، ثم تليه نار، فتكون هذه الصفات ثمانية:
أرض إلى الخلوص ماء وطين، وبر مع الجبال، والبحر كطبقة واحدة مركبة، وهواء مسخن بالشعاع، وهواء بارد، وهواء أقرب إلى المحوضة، وهواء دخانى نارى ونار.
فهذه طبقات العناصر فى ترتيبها ووضعها.
Bogga 204
الفصل الثانى فصل فى أحوال كلية من أحوال البحر
ماء البحر ليس حكمه حكم سائر العناصر فى أن له طبقات مختلفة ظاهرة الاختلاف فى ترتيب العلو والسفل. وذلك لأن الماء سريع الاختلاط بما يخالطه؛ لأنه ليس عمقه وثخنه مثل عمق الهواء وثخنه. فلذلك يشتد اختلاط الآثار بكليته وتنفذ فيه. وجذب الشمس لما فى باطن الأرض وتحريكها إياه يفى بتبليغه وجه البحر وإخراجه عنه. ولولا ذلك لكان ظاهر البحر، وما يلى وجهه، أقرب ماء إلى طبيعة الهواء، وكان لا كثير تأثير فيه للأرضية. وليس كذلك؛ بل ماء البحر كله مالح أو زعاق.
والماء لا يتغير التغيرات التى بعد الكيفيات الأول، بنفسه، إنما يتغير لمخالطة شىء آخر. والهواء إذا خالطه جعله أرق وأعذب، ولم يجعله ملحا. إنما يصير ملحا بسبب الأرضية المحترقة المرة إذا خالطته. فلم يخطىء من زعم أن ملوحة ماء البحر لأرضية خالطته، إذا اعتقد، مع ذلك، شرط الاحتراق والمرارة.
Bogga 205
وأنت فيمكنك أن تتخذ الملح من رماد كل محترق، ومن كل حجر يفيده التكليس حدة ومرارة، إذا طبخته فى الماء، وصفيته، ولم تزل تطبخ ذلك الماء أو تدعه فى الشمس، فإنه ينعقد ملحا. ولهذا ما يتخذ قوم من القلى ومن النورة ومن الرماد ملحا متى شاؤوا.
وسبب ملوحة العرق والبول مخالطة المرارة المحترقة المائية فيملح. ولما أعوز الملح فى بعض البلاد كانو يتخذونه من رماد قصب وشجر يكون لهم بهذا التدبير.
وليس ما ظن قوم من أن ملوحة ماء البحر إنما هى بسبب أن الكثيف منه يبقى محتبسا فيه بعد تبخر البخارات اللطيفة، فيكون بسببه مرا. ومعلوم أن كثافته باختلاط الأرضية به. فإن لم تزد شرطا، وقلت بمجرد الكثافة، فهلا كان الطين مرا أو ملحا؟ ولم، إذا عاد إليه ماء يتبخر عنه فى الأودية العذبة والأمطار الجود، لا يعود البتة مرة أخرى عذبا؟ فمن المعلوم أن البحر، وإن أنفق صيفا، فإنه يسترجع شتاء.
والماء بنفسه ليس فيه كثيف ولطيف، بل هو متشابه الأجزاء. إنما الكثيف منه ما خالطته أرضية؛ لأنه لا شىء أكثف من الماء إلا الأرض، والأرضى إذا خالطته أرضية لا كيفية لها لم يتكيف، وإنما يتكيف من كيفية الأرض. فإن كانت الأرضية شديدة المرارة لم يتملح؛ بل يزعق، وإن كانت قليلة المرارة، بحيث إذا تحلل فى الماء، قبل نوعا من الاستحالة عن مرارته، ملح. وأى ماء ملح طبخته انعقد منه، آخر الطبخ لا محالة، ملح، وحتى من البول والعرق ومياه أنهار ملحة.
والدليل على أن ماء البحر يتملح بمخالطته الأرضية، وليس ذلك طبيعيا له، أنه يقطر ويرشح فيكون عذبا، وقد تتخذ كرة من شمع فترسل فيه، فيرشح العذب إلى باطنه رشحا.
Bogga 206
والبحر أيضا قد تكون فى مواضع منه مياه عذبة، وقد تمده مياه عذبة، إلا أنها ألطف من ماء البحر المجتمع فيه قديما، فيسبق إليه التحلل. فإن اللطيف يسبق إليه، وخصوصا فى حال الانتشار، يعين على ذلك، كما لو بسط الماء على البر. وإذا كان كذلك صار العذب يتحلل بخارا ويصير سحبا وغير ذلك، والمالح الكثيف يبقى.
وقد يتفق أن يصعد منه بخار، إلا أنه لكثافته لا يجاوز البحر؛ بل ينزل عن قريب مطرا مالحا. وهذا فى النوادر ويطيب بمخالطة الهواء.
فمن المعلوم أن الملح إذا طبخ فى الماء، فيصعد بخار الماء، وكان الملح لطيفا، يصعد معه أيضا.
فالبحر بالحقيقة كما قيل من أنه يعطى الصفو لغيره، ويحبس الكدر لنفسه، مع أنه يأخذ الصفو أيضا.
والبحر لملوحة مائيته، وكثرة أرضيته أثقل من المياه الأخرى وزنا. ولذلك فقل ما يرسب فيه البيض. وأما بحيرة فلسطين فلا يرسب فيها شىء، حتى الحيوان المكتوف. ولا يتولد فيها الحيوان، ولا يعيش. وههنا نهر عذب أيضا لا يتولد فيه حيوان لبرده من منبعه إلى مصبه.
على أن فى البحر مواضع يعذبها ما ينبع إليها من عيون تحتها.
Bogga 207
وقد قال «أنبادقليس»: إن ملوحة البحر بسبب أن البحر عرق الأرض. وهذا كلام شعرى ليس بفلسفى. لكنه مع ذلك يحتمل التأويل. فإن العرق رطوبة من البدن تملحت بما يخالطها من المادة المحترقة من البدن. وماء البحر قد يملح بقريب من ذلك.
فإذا كانت ملوحة البحر لهذه العلة ولغاية هى حفظ مائه عن الأجون، ولولاه لأجن، وانتشر فساد أجونه فى الأرض، وأحدث الوباء العام. على أن ماء البحر يأجن إذا خرج من البحر أيضا، وإنما ينحفظ بعضه بمجاورة بعض وبمدد التمليح الذى يصل إليه.
فلهذه الأسباب كان الغالب فى البحر مالحا. إنما العذب منه قليل. وطبيعته حارة تلهب النارفوق أن تطفئها، ثقيلة لذاعة للمغتسل به، أكالة. وإذا تميز منه العذب فليس بسبب الأرض؛ بل بسبب عيون ذكرناها، وإلآ لأصلحتها الأرض الطيبة إذا جعل فيها له مصانع.
فبين من هذا أن جميع أجزاء الماء قابل للاختلاط بما يتصعد من الأراضى، ومنفذ لما ينفذ من القوى السماوية. فليس للبحر طبقات.
وأما اختصاص البحر فى طباعه بموضع دون موضع فأمر غير واجب؛ بل الحق أن البحر ينتقل فى مدد لا يضبطها الأعمار، ولا تتوارث فيها التواريخ والآثار المنقولة من قرن إلى قرن إلا من أطراف بسيرة وجزائر صغيرة؛ لأن البحر لا محالة مستمد من أنهار وعيون تفيض إليه، وبها قوامه. ويبعد أن يكون تحت البحر عيون ومنابع هى التى تحفظه دون الأنهار. وذلك لأنها لو كانت لوجب أن يكون عددها جدا، وأن لا تخفى على ركاب البحر؛ بل إنما تستحفظ البحار بالأنهار التى مصبها من نواحى مشرفة عالية بالقياس إلى البحر.
Bogga 208
ومن شأن الأنهار أن تستقى من عيون، ومن مياه السماء. ومعولها القريب إنما هو على العيون. فإن مياه السماء أكثر جدواها فى فصل بعينه دون فصل. ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها فى بقاع واحدة بأعيانها تشابها مستمرا. فإن كثيرا من العيون يغور وينضب ماؤها. وكثيرا ما تقحط السماء فلا بد من أن تجف أودية وأنهار، وربما طمت الأنهار، بما يسيل من أجزاء الأرض، جوانب من النجاد. وأنت ترى آثار ذلك فى كثير من المسالك، وفى أودية الجبال والمغاوز، وتتيقن أنها كانت وقتا من الزمان غايرة المياه، وقد انقطع الآن مواردها.
وإذا كان كذلك فستنسجم مواد أودية وأنهار، ويعرض للجهة التى تليها من البحار التى تنضب، وستستجد عيون وأودية وأنهار من جهات أخرى، فتقوم بدل ما نضب. ويفيض الماء فى تلك الجهة على البر. فإذا مضت الأحقاب، بل الأدوار، يكون البحر قد انتقل عن حيز إلى حيز، وليس يبعد أن يحدث الإتفاق أو الصناعة خلجان، إذا طرقت فى سد بين البحر وبين غور نتوءا، وهدمته، أو بين أنهار كبار وبين مثله.
وقد يعرف من أمر النجف الذى بالكوفة أنه بحر ناضب، وقد قيل إن أرض مصر هذه سبيلها، ويوجد فيها رميم حيوان البحر.وقد حدثت عن بحيرة خوارزم أنها حالت من المركز الذى عهدها به مشايخ الناحية المسنون حوولها، إلا أن أعمارنا لا تفى بضبط أمثال ذلك فى البحار الكبار، ولا التواريخ التى يمكن ضبطها، تفى بالدلالة على الانتقالات العظيمة فيها. وربما هلكت أمم من سكان ناحية دفعة بطوفان أو وباء، أو انتقلو دفعة، فتنوسى ما يحدث بها بعدهم.
Bogga 209
وهكذا حال الجبال. فإن بعضها ينهال ويتفتت، وبعضها يحدث ويشمخ بأن تتحجر مياه تسيل عليها أنفسها وما يصحبها من الطين. ولا محالة أنها تتغير عن أحوالها يوما من الدهر. ولكن التاريخ فيه لا يضبط. فإن الأمم يعرض لهم آفات من الطوفانات والأوبئة، وتتغير لغتهم وكتاباتهم فلا يدرى ما كتبوا وقالوا. وهو ذا يوجد فى كثير من الجبال. وبالهرمين اللذين بمصر، على ما بلغنى، كتابات منها ما لا يمكن اخراجه، ومنها ما لا تعرف لغته.
وأعلم أن البحر ساكن فى طباعه، وإنما يعرض ما يعرض من حركته بسبب رياح تنبعث من قعره، أو رياح تعصف فى وجهه، أو لمضيق يكون فيه ينضغط فيه الماء من الجوانب لثقله، فيسيل مع أدنى تحرك، ثم يلزم ذلك لصدم الساحل والنبو عنه إلى الناحية التى هى أغور. أو لاندفاع أودية فيه مموجة له بقوة، وخصوصا إذا ضاقت مداخلها
وارتفعت وقل عمقها، فيعرض أن يتحرك إلى المغار. واذا كان فى البحر موضع مشرف، ووقع أدنى سبب محرك للماء، فسال عنه إلى الغور، فلا يزال يجذب مقدمه مؤخره على الاستتباع فيدوم سيالا. والبحر الموضوع فى الوهاد الغائرة أسلم من تمويج الرياح، حتى يخيل من الجريان ما يخيله نظيره فى موضع عال.
قالو إن البحر الموضوع فى داخل منار هرقل لقلة عمقه وضيق مواضع منه وكثرة ما يسيل إليه من الأنهار يخيل جريانا، والبحر الذى من الجانب الآخر بالخلاف لكبره، وقلة ما ينصب فيه وشدة عمقه.
Bogga 210
الفصل الثالث فصل فى تعريف سبب تعاقب الحر والبرد
قد يعرض فى هذه العناصر؛ بل وفى المركبات منها، شىء يسمى التعاقب، وهو أنه إذا استولى حر على ظاهر بارد اشتد برد باطنه وبالعكس. ولهذا ما توجد مياه الآبار والقنى فى الشتاء حارة، وفى الصيف باردة.
وقد اختلفت الأقاويل فى هذا.
فقائل إن الحرارة والبرودة تنهزم إحداهما من الاأخرى، كأنها تهرب من عدوها. فإذا استولت عليها من الظاهر انهزمت غائرة؛ وإن استولت عليها من الباطن انهزمت ظاهرة، وكما يظن من هرب الماء من النار. وهذا المذهب يوجب أن يكون العرض من شأنه أن ينتقل من جزء موضوع إلى جزء موضوع، بل من موضوع إلى موضوع. فإنه كثيرا ما يكون الباطن من الجسمين جسما منفصلا بنفسه، فيعرض هذا العرض له فى ذاته؛ إذ المشتمل عليه منهما، يستحيل استحالة مفرطة، عن حر مثلا، فيستحيل هو استحالة مفرطة عن برد، كأنه انتقل من المحيط به، وهو موضوع مفرد، إليه وهو موضوع غير مفرد.
Bogga 211
وقد علمنا أن انتقال الأعراض مما لا يقول به المحصلون.
وقوم آخرون أبوا أن يكون لهذا المعنى حقيقة إلا فيما يكون الجسم الواقع فيه هذا الشأن إنما يسخنه جسم لطيف حار هو سار فيه، أو يبرده جسم لطيف بارد هو سار فيه. فإن كان ذلك الجسم بخارا، فاستولى البرد على ظاهره، احتقن البخار فى داخل الجسم المستولى على ظاهره، ولم يتحلل، فازداد سخونة، أو كان المستولى حرا فجفف الظاهر، فكثفه، فإن ذلك الجسم اللطيف لا يتحلل؛ بل يبقى داخلا محتقنا، ويزداد لا محالة قوة؛ اذ لولا الاحتقان لكان يتحلل.
وأكثر هؤلاء لم يصدقوا أمر القنى والآبار؛ بل ذكروا أن ذلك غلط من الحس كما يعرض لداخل الحمام. فإنه أول ما يدخل عن هواء بارد شتوى يتسخن ما يفيض على رأسه من ماء فاتر، ثم إذا استحم بالحمام الداخل استبرد ذلك الماء بعينه، وذلك لأنه أول ما دخل كان بارد البشرة، وكان الماء بالقياس إليه حارا، ثم لما أقام فى الحمام الداخل سخنت بشرته بالتدريج، حتى صارت أسخن من ذلك الماء. فلما أعاد ذلك الماء على بشرته كان باردا بالقياس إليها. وأما الانتقال المتدرج فيه فلا يحس به، كما يحس عن المغافص دفعة ذلك الذى يسميه الأطباء سوء المزاج المختلف.
قالوا: وكذلك حال الأبدان فى الشتاء، فإنها تكون أبرد من مياه القناة، وفى الصيف أسخن من تلك المياه، والمياه فى الفصلين على حال متقاربة، لكن الحس يغلط فيها الغلط المشار إليه.
Bogga 212
وهذا الذى قالوه ليس مما لا يمكن. لكن ليست الصورة فى الآبار والقنى على نحو ماذكروا بوجه من الوجوه. فإنا قد امتحنا تلك المياه فوجدناها فى الشتاء تذيب الجمد فى الحال، ولا تذيبه فى الصيف. وليس يصعب علينا فى الشتاء أن نسخن أبداننا سخونة تعادل سخونة الصيف. فإذا فعلنا ذلك، وجربنا تلك المياه صادفناها حارة، وفى الصيف جربناها فصادفناها باردة، وكثير منها يقارب المياه المبردة بالثلج والجمد.
وههنا أمور جزئية من الأحوال الطبيعية تكذب هذا الرأى وتبطله سنحصيها خلال ما نحن شارحو أمره من جزئيات الطبيعيات، لكن الحق فى هذا شىء آخر.
نقول إن الجسم الذى له طبيعة مبردة أو مسخنة فإنه يبرد ذاته، أو يسخنها، بطبيعته، ويبرد أيضا ما يجاوره ويتصل به، أو يسخنه.
وأيضا نقول إن القوة الواحدة إذا فعلت فى موضوع عظيم وفعلت فى موضوع صغير فإن تأثيرها فى الموضوع الصغير أكثر وأقوى من تأثيرها فى الموضوع العظيم. وهذا أمر قد تحققته من أمور سلفت. وتوجدك التجربة مصداقه. فلا سواء إحراق خشبة صغيرة وإحراق خشبة كبيرة، ولا سواء إضاءة مشكاة من سراج واحد بعينه، واضاءة صحراء رحيبة منه.
Bogga 213
فإذا كان فى جسم ما، من نفسه، أو من شىء فيه، مبدأ تسخين، وكان ذلك المبدأ يسخنه كله، كان تسخينه له كله أضعف من تسخينه لما هو أصغر من كليته. وإذا استولى البرد على الأجزاء الظاهرة منه، فامتنع فعلها فيه وبقى المنفعل عنه الأجزاء الباطنة، وهو أقل من كليته، كان، تسخنها وانفعالها من المؤثر أشد بكثير من تسخن الكلية وانفعالها عن تلك القوة بعينها، كمن كان عليه ثقل يحمله فنقص بعضه، وتسلطت قوته على شطر منه، فيكون تأثيره فيه أسرع وأقوى وكذلك الحال فى التبريد.
فيجب أن نعتقد حال التعاقب على هذه الجملة، لا على سبيل اختلاف مقايسة، ولا على سبيل انتقال عرض، أو انهزام ضد من ضد. فالماء ليس إنما ينهزم من النار على ما يظنونه؛ بل يتبخر دفعة بخارات شأنها أن ترتفع إلى فوق دفعة، مع مخالطة الماء الذى لم يستحل، فتحدث من ذلك حركة مضطربة وصوت ينبعث عن شدة حركة هوائية تعرض هناك، لا على سبيل أن الماء يستغيث من النار بوجه من الوجوه. وهذه الحركة إنما يقصد الماء فيها كالمساعدة للنار، والمصير نحو جهتها لما قبله من السخونة. فربما لم يمكنه لثقله ولبطلان الكيفية المكتسبة له عند مفارقة مستوقد النار بالغليان، وربما قسره الهواء الذى يحدث فيه منه على التفرق، وقذفه إلى بعيد تطريقا لنفسه، كما يغليه ويحبسه، وكما يحدث عن إغلائه من التموج.
Bogga 214
الفصل الرابع فصل فى تعريف ما يقال من أن الأجسام كلما ازدادت عظما ازدادت شدة وقوة
ولهذه العناصر بل وللمركبات شىء آخر نظير ماذكرناه، وهو أن الكمية إذا ازدادت ازدادت الكيفية. فإن النار إذا عظمت، وأدخل فيها حديدة فإنها تماس الحديدة منها سطحا مثل السطح الذى تماسه من النار الصغيرة. لكن سطح النار الكبيرة يحمى فى زمان غير محسوس، وسطح النار القليلة يحمى بعد حين.
وكذلك الشىء الذى يلقى فى ملح قليل فإنه لا يتملح، كما يتملح إذا ألقى فى الملاحة فى مدة قليلة.
Bogga 215
فبين أن كيفية الأعظم أشد كيفية من الأصغر. فمن الناس من يظن أن السبب فى ذلك ليس هو لأن الأعظم أشد كيفية، ولكن الأعظم تتدارك أجزاؤه البعيدة ما يعرض للأجزاء القريبة من المنفعل. فإن هذا المنفعل لا محالة، كما تأثر بمادته فقد يؤثر بصورته. فإن الفاعل فى الطبيعيات منفعل. فإذا انفعلت الأجزاء القريبة من الفاعل الكبير عن المنفعل المكنوف الضعيفأعادت الأجزاء التى تليها إياها إلى قوتها، فحفظت قوتها. وهذا مثل المنغمس فى الماء الغمر. فإنه يصيبه من البرد ما لا يصيبه لو انغمس فى ماء يسير. وذلك لأن الماء اليسير إذا برد البدن تسخن أيضا من البدن. فإذا تسخن لم يجد مما يطيف به ما يتداركه فيبرد. وأما الماء الغمر فإنه إذا سخن ما يلى البدن منه تداركه ما يلى ما يليه، فبرده، فعاد يبرد البدن. فلا يزال يتضاعف تبريده.
فهؤلاء يكاد أن يكون احتجاجهم يناقض مذهبهم. أما أولا فلأنهم يجعلون الأجزاء تبرد من الأجزاء: وليس يجب أن يسخن الشىء حتى يبرد. فإن البارد إذا لم يكن الجامد فى الغاية؛ بل كان من شأنه أن يقبل زيادة برد، كان من شأنه أن يبرد مما هو مبرد زيادة تبريد: وهذا يوجب أن تكون الأجزاء كلما تجاورت أكثر، زاد كل واحد منها فى برد صاحبه؛ لأن صاحبه يبرد من طبيعته، ويبرد أيضا من مجاورته لأنه مبرد.
فيجب من هذا أن يكون كلما ازداد عظما ازداد تبردا، وإن لم يكن هناك مسخن.
وليس لقائل أن يقول إن الماء كله متشابه، فيستحيل أن يفعل جزء منه فى جزء، قائلا إن الشىء، كما قد علم، لا يفعل فى شبيهه. وإذا كان كذلك فما دام مجاوره باردا مثله لم يصح أن يؤثر فيه؛ بل يجب أن يتسخن هو أولا، حتى يصير ضده، فيفعل ذلك فيه البرد.
وإنما ليس له أن يقول ذلك لأن المجاور البارد ليس ينفعل عن مجاوره من حيث هو بارد؛ بل من حيث ذلك مبرد، وهو ناقص البرد، مستعد لزيادة التبرد. فهو من جهة ما هو مستعد مقابل للبارد بالفعل.
Bogga 216
ومعنى قولهم إن الشىء لا يفعل فى شبيهه هو أن الشىء الحاصل بالفعل من المستحيل أن يقال إنه مستفاد عن طارئ من شأنه أن يحدث عنه مثل ذلك الحاصل، بخلاف ما يعرض إذا كان الطارئ بهذه الصفة، والمطروء عليه عادم لذلك الشىء الذى فرضناه، فيما كلامنا فيه، حاصلا، بل فيه ضده. وأما الزيادة عن الحاصل فقد تقع من الطارئ إذا كان بطبعه فاعلا لها، وكان فى المجاور بقية استعداد لقبولها، كيف كان الطارئ فى كيفيته، كان قويا أو ضعيفا؛ إلا أن يكون ضعفه فى تلك الكيفية يجعله إلى ضدها أقرب، فيكون السلطان فى التأثير لضدها.
Bogga 217
فهذا هو الذى يجب أن يسلم من قول الناس إن الشىء لا يفعل فى شبيهه. فإنه إن لم يفهم على هذه الصورة فليس بواجب أن يسلم. فالبارد إذا جاوره البارد عرض من ذلك أن يكون تبرده من قوته المبردة التى فى طبعه أقوى كثيرا من تبرده عنها، لو كان مجاوره شيئا حارا، يكون ذلك الحار كاسرا من البرد الفائض من طبيعته. وإذا كان مجاور الماء فإنه، مع أنه لا يكسر تبريد قوته، فهو يبرد أيضا؛ لأن القوة التى فى الماء، على ما علمت، تبرد الماء الذى هى فيه، وما يجعله معا من كل فاعل للتبريد؛ وهذه القوة بالحقيقة ليست شبيهة للجرم البارد، فيقال إنها لا تفعل فى شبيهها. فإن هذه القوة مبردة، وليست بباردة، وهى الطبيعة المائية، وهى أيضا محركة، وليست متحركة. فهى إذا وجدت مادة مبردة محتملة لأن تبرد صار ما فيها لا يعوق عن التبريد الذى يفيض منه، لأنها متجانسة مشاكلة. والشىء الذى لا يبطل شكله وجب أن تحصل هناك زيادة زائدة فى تبريد المادة.
فإن كانت تلك المادة التى فيه زادته تبردا، وتعدى ذلك أيضا إلى تبريد ما يجاورها فيكون، بالمجاووة، كل واحد من الجزءين يزداد كيفية؛ لأن طبيعته لا تجد عائقا عن تكميل الفعل، ولأنه يفعل أيضا فى مجاوره وكلما كثرت هذه الزيادة التى فى الكم ازداد هذا التأثير إلى أن يبلغ الحد الذى لا وراءه.
ولو كان جائزا أن تذهب الزيادة إلى غير نهاية لكان يجب أن يذهب هذا الاشتداد إلى غير نهاية للعلة المذكورة. ولهذا ليس يحق ما يشكك به بعض المتشككين على ماذكر فى علوم المشائين أنه، لو كان الفلك، مع عظمه، نارا لكان يجب أن يفسد ما تحته. فقال لا أرى ذلك يجب، فإن المفسد بالحقيقة هو السطح المماس. وهذا السطح يكون على طبيعة واحدة، وإن كان للجسم الذى وراءه أى عظم شئت؛ فإنه لم يعلم أن هذا السطح لا تثبت كيفيته على مبلغ واحد، حالتى عظم جسمه وصغره.
وقد سأل أيضا ، وقال: لو كان الازدياد فى العظم يوجب الاشتداد فى الكيف لكان يجب أن تكون نسبة برد ماء البحر إلى برد ماء آخر كنسبة عظمه إلى عظمه قال وليس كذلك؛ فإن ماء البحر، وإن كان أشد تبريدا، وكان الشارع فيه لا يحتمل من تطويل المكث فيه ما يحتمله الشارع فى ماء قليل، فليس يبلغ أن تكون نسبة بردى المائين نسبة المائين فى مقداريهم.
Bogga 218
فنقول إن هذه أيضا مغالطة، وذلك لأنه ليس قولنا «كلما زاد الجسم البارد مثلا قدرا ازدادت كيفيته شدة» يوجب أن تكون نسبة القدرين نسبة الكيفية فى المزيد عليه، على الكيفية الأولى. وذلك أنا إنما قلنا إنه إذا زيد على هذا الماء ماء مثله، صار برد المزيد عليه أشد، و لم نقدر قائلين إنه صار برد المزيد عليه صار ضعف برده الأول، فإنا لم ننقل إليه برد المضاعف عليه بكليته حتى يتضعف. وليس إذا كان انضمام ذلك إليه يوجب زيادة برد فيه، يجب أن تكون تلك الزيادة مثل الأصل الأول، أو مثل الذى فى المضام. نعم لو كان برد الماء المبرد كله ينتقل إليه لكان بالحرى أن يظن هذا الظن، وأن يقال إن البرد إذا كان مثله تضاعف برده. وليس كذلك؛ بل برد الماء المزيد عليه المضاف إليه يلزمه، ولا يفارق جوهره. إنما يتعدى عنه إلى هذا أثر زيادة قليلة. وإذا أضيف آخر إلى المضاف زادت زيادة أخرى قليلة [فلعلها تكون] أقل من تلك؛ لأن المضاف الثانى أبعد.
فليس يجب فى الزيادات أن تتضاعف الكيفية فيها بتضاعف الأقدار، وإذ ليس يجب أن تكون الزيادة مثل الأصل؛ بل يجوز أن تكون أقل منه بكثير، وبحيث لا تحس فى الأضعاف اليسيرة، فلا يجب أن يكون ما اعترض به حقا. نعم لو كان جملة البردين اللذين فى الماءين يمكن أن يفعل فى موضوع كان يفعل فيه برد الجزء الأول لكان يكون تبريده ضعف تبريد ذلك. ولكن هذا محال وغير نافع لهذا المتعنت.
Bogga 219
أما أنه محال فذلك لأن الأول إنما كان يبرد بالمماسه. وإنما كان يماس مثل مثلا. ذلك الذى كان يماسه لا يمكن أن يماس مجموع الجزءين؛ بل إنما يماس مجموع الجزءين ضعف ذلك. وعند ذلك يكون فعله فعلا مشابها لفعله؛ لأن المنفعل ضعف المنفعل إلا ما يزيده زيادة اشتداد الكيفية للاجتماع.
وهذا الباب أصل فاصل ينبغى أن يحصل ويحقق.
وأما أنه غير نافع للمتعنت فلأن المسألة فى تغير سطح واحد.
وبعد هذا، فيجب أن يعلم أن النسبة فى الزيادة تصغر، وتصغر دائما على ترتيب واحد.
Bogga 220