68

Maanso iyo Fikir

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Noocyada

يقسم «لوكاش» إنتاج جوته تقسيما يثير التساؤل، ولا يستند إلى هذا الشاعر وشخصيته الباطنة وتصوراته النظرية وتجاربه الإبداعية والعملية. فهو يميز فيه قسمين كبيرين يقع الأول منهما - وهو الذي أنتجه الشاعر في شبابه وجزء من رجولته - قبل قيام الثورة الفرنسية، ويعبر فنيا وفكريا عن آخر ذروة بلغها عصر التنوير الذي مهد لتلك الثورة. أما القسم الثاني - الذي يقع في مرحلة النضوج «الكلاسيكي» ثم مرحلة الشيخوخة - فيعبر في رأي المؤلف عن الذروة الأولى للتطور الفني للبرجوازية بعد الثورة الفرنسية، هذه الذروة التي أكملتها ذروة أخرى بلغها الأدب البرجوازي كما رأينا مع نضج الواقعية الأوروبية على أيدي بلزاك وستندال ومانزوني بوجه خاص، وكذلك ولترسكوت وزولا وتولستوي وغيرهم.

لا شك أن هذا التقسيم قد ساعد لوكاش على تأكيد الطابع الواقعي في أدب جوته كله، كما ساعده على أن يطبق عليه مفاهيم الأيديولوجية السائدة مع استثناءات قليلة وعلى درجات مختلفة. بيد أن التقسيم نفسه لا يخلو من التعسف، كما أن كلمة الواقعية نفسها كلمة ضخمة مطاطة، أشبه بالقدر التي تتسع لكل شيء: لفيرتر وفيلهلهم ميستر، وبروميثيوس وفاوست، وجوتز وهيرمان ودوروثيا، والرسائل المتبادلة بين جوته وشيلر، على الرغم من تفاوت درجات «الواقعية» في هذه الأعمال، ومن تردد القارئ ومؤرخ الأدب في وصف بعضها بالواقعية، ولنناقش هذه المسألة على ضوء تفسير المؤلف للجزء الأول من رواية فيلهلم ميستر، سنوات الطلب، ثم للجزأين الأول والثاني من فاوست. (2)

يؤكد المؤلف أن «فيلهلم ميستر» تعبر عن مثل الثورة الفرنسية التي كان تحقيقها مستحيلا في المجتمع الألماني المتخلف أيام جوته. والواقع أن هذه قضية لا يمكن قولها بهذه الصورة المبسطة، وبخاصة إذا تذكرنا موقف جوته المتحفظ من هذه الثورة، وعرفنا مدى استهجانه لأساليبها البشعة التي أثارت نفوره واشمئزازه من أية «نظرية كوارثية» تحاول تحطيم الترتيب الاجتماعي والنظام الأخلاقي والروحي. وإذا كان قد استحسن «المحتوى الاجتماعي» للثورة الفرنسية، فإن هذا لا يكفي لكتابة رواية كاملة تعبر عن مثلها الثورية. أضف إلى هذا أن شخصية بطلها فيلهلم شخصية تبحث عن وحدتها وانسجامها مع نفسها وعالمها وسط طبقات ونماذج إنسانية متباينة. وإذا كان يعبر عن تناقضات المجتمع «البرجوازي» في عصر جوته، فليس من الضروري أن تكون مثله تعبيرا عن مثل الثورة الفرنسية، بل يمكن أن تكون مستمدة من النزعة الإنسانية التي طبعت تفكير جوته ومفكري عصره جميعا، مثل هيردر والأخوين فيلهلم وألكسندر فون همبولت وشيلر وفيلاند، ومن قبلهم ليسينج وفنكلمان. إن تفسير الشخصيات والصور والنماذج الشعرية بما يقابلها من صور ودلالات اجتماعية وتاريخية (أيديولوجية) أشبه بالسير على حد الموسي أو المشي فوق حبل مشدود فوق هاوية. فقد يهبط بالتفسير إلى التعسف والفجاجة، وقد يضيء حنايا العمل الفني، ويزيد من غناه. والمهم في رأيي ألا يسرف الناقد في لي أعناق الحقائق الشعرية ناحية الحقائق الاجتماعية، والواضح من الكتاب أن لوكاش قد أجهد نفسه؛ ليثبت أن فيلهلم شخصية نمطية تجسد القوى التاريخية، دون أن تضحي بثرائها الفردي، وأن جوته تبعا لذلك كان «تقدميا» وواقعيا واصل الخط الواقعي والتقدمي الطويل الذي يمتد في رأيه (أي رأي مؤلف الكتاب) من الإغريق إلى شيكسبير وعصر النهضة حتى بلزاك وستندال. ومع أن محاولة لوكاش جديرة بالإعجاب، إلا أن قراءته للنص، كما يقول المعاصرون من النقاد الذين جاءوا بعده، تحتمل السؤال والمراجعة، أي تحتمل هي نفسها قراءة وتفسيرا مختلفا ... والدليل على هذا أنه يفسر الشيطان خصوصا في القسم الثاني من فاوست - أو ما يعرف بفاوست الثاني - بأنه تجسيد للرأسمالية الناشئة، ويؤكد هذا بمسئوليته عن اختراع النقود الورقية وتمثيله للجشع الرأسمالي وقتله هو وأعوانه عجوزين مسكينين (وهما فيلمون وباوكيس اللذان اشتهرا منذ العصور القديمة بحبهما النادر، وفقرهما النادر أيضا) قتلة فظيعة تكشف عن أنانية الرأسمالي ووحشيته، ولكن المؤلف يعترف من ناحية أخرى بأن الصراع بين فاوست ومفيستو يتعدى هذا الجانب الرأسمالي في شخصية الشيطان؛ لأنه صراع روحي وأخلاقي يمتد إلى كل قضايا الحياة البشرية، ويعكس في حركة صعوده وهبوطه تأثير الاتجاهات الشيطانية على روح الإنسان.

كل هذا يدل على أن المؤلف لم تغب عنه أوجه الدلالة المختلفة في هذا العمل الشعري الذي لا تنفد كنوزه، ولكن القارئ يشعر بأنه يكاد يسخر كل شيء فيه لخدمة قضية اجتماعية وأيديولوجية ثابتة، وهي قضية التقدم في الوعي بتناقضات الواقع والتمهيد للثورة عليه. فهل كان جوته نفسه سيقبل هذا التفسير، وهو الذي تنصل دائما من أي تفسير فكري أو فلسفي لأعماله الشعرية وسخر من كل الذين حاولوا استكناه معانيها وأسرارها العميقة؟ وإذا صح أن الناقد لا يهمه رأي المؤلف؛ لأن مهمته هي أن ينطق العمل بما لم ينطق به، ولم يقصد إليه قصدا هو أو صاحبه - وهو صحيح على اختلاف مناهج التفسير أو الشرح والتأويل - فستبقى المشكلة هي درجة هذا النطق ونسبته، ومدى تعبيره عن تفكير المؤلف أو العصر أو الناقد نفسه، وإلا أمكن أن يصبح العمل الواحد نهبا لكل تفسير ومطية لكل «أيديولوجية» حسب الهوى والمقدرة والظروف ... ولا شك أن خصوصية الأدب متشابكة مع الأمور العامة والسياسية والتاريخية، وتطويع الأمور الخاصة بالبنية الفنية والشعرية لها بأي ثمن، هو في تقديري شيء بالغ الخطأ والخطورة كما أن نقيضه على الطرف الآخر أمر بالغ الخطأ والخطورة. ولو أن لوكاش التفت إلى جوانب التفاوت والصراع والتفرق والتعدد والتغير في معاني ومستويات هذين العملين الكبيرين من أعمال جوته، وأعني بهما «روايتيه» الملحميتين الدراميتين في آن واحد وهما فيلهلم ميستر وفاوست، بدلا من محاولة تأكيد وحدتهما الشاملة، وتجسيدها للقوى والعوامل التاريخية والاجتماعية ونمطية شخصياتهما بأي ثمن، ولو انتبه إلى «أيديولوجية» الشاعر فيما لا يقوله بدلا من عناء البحث عنها فيما يقوله، ولو حاول أن يبتعد قليلا عن «أيديولوجيته» هو نفسه، ولم يفرضها بكل وسيلة على الشاعر الذي نعلم نفوره من الأفكار، واستغراقه في الموضوعات؛ لأمكنه أن يلمس مفارقات العملين وثغراتهما وتشتتهما وعدم اكتمالهما، بل «صمتهما» في كثير من الأحيان، مما يدل على علاقة التوتر والصراع في موقف جوته المعقد من «أيديولوجية» عصره، ومن كل تفكير أو تفلسف بوجه عام، ويؤكد كذلك إيثاره للأشكال المفتوحة على المغلقة، وللصراع بدلا من الحل، وللصور والمشاهد والمواقف الملموسة الحية المتقطعة بدلا من التعميمات المجردة. (3)

كان لوكاش متسقا مع نفسه في حديثه عن قضية الشكل الملحمي الذي تناقش حوله جوته مع صديقه شيلر في رسائلهما الرائعة، كما لجآ إليه في بعض أعمالهما المتأخرة كما بينا من قبل. ولقد أكد لوكاش في مرحلة مبكرة من إنتاجه (كما في مقاله عن تطور الدراما الحديثة الذي يرجع إلى سنة 1909م) أن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب، أي إن الأشكال الفنية - كما رأينا من قبل - هي الحوامل الفعلية للأيديولوجيا في الفن. وقد حاول أن يثبت أن التطور المهم في شكل المسرح الملحمي والرواية الدرامية الملحمية عند جوته وشيلر قد نتج عن تغيرات مهمة في الأيديولوجيا السائدة، وجسد طرائق جديدة في إدراك هذين الشاعرين للواقع الاجتماعي (حتى ولو لم يكن إدراكهما واعيا بصورة كافية).

والحق أن العلاقة بين الشكل والأيديولوجيا علاقة معقدة يصعب الخوض فيها في هذا المجال المحدود، وهي على كل حال ليست علاقة تماثل بسيطة، ولا هي علاقة استقلال مطلق. فالشكل بنية مركبة من عناصر ثلاثة على الأقل؛ لأنه يتشكل بواسطة التاريخ الأدبي للأشكال، ويتبلور من أبنية أيديولوجية سائدة، ويجسد وضعا معينا من العلاقات بين المؤلف والمتلقي

4 - ناقدا كان أو قارئا متذوقا - فإذا أضفت إلى ذلك أن للناقد، وهو هنا لوكاش، أيديولوجية ، وأن لهذه الأيديولوجية تأثيرا لا شك فيه على نظرته النقدية، عرفت أن مشكلة الشكل في الحقيقة أعقد بكثير من الصورة المبسطة التي عرضها بها المؤلف. ومع أنه لم يهمل عناصر أخرى غير العنصر التاريخي والاجتماعي في اختيار «جوته» مثلا في فاوست للشكل الذي تتداخل فيه الدراما والملحمة، وعلى الرغم من إنصافه وحساسيته الشديدة في حديثه عن الدوافع الباطنة والعوامل الإبداعية التي ألجأته إلى اختياره، بالإضافة إلى رؤيته الكونية والميتافيزيقية ورغبته الخاصة في الوفاء بمعايير الجمال الكلاسيكية، وبمقتضيات المادة الحديثة والحياة الجديدة في آن واحد، على الرغم من هذا كله، فقد وظف كل هذه العوامل والعناصر في تأكيد وجهة نظره الثابتة عن «اجتماعية» الشكل وأيديولوجيته. والأخطر من هذا أنه فرض هذا التفسير الأيديولوجي على أعمال جوته دون تفرقة. وإذا افترضنا أن من الممكن أن نصرف النظر عن نفور جوته من السياسة وأحداثها المربكة بوجه عام، وعن صعوبة القول بأن «أيديولوجيته» - إن صح هذا التعبير الحديث عن نزعته الإنسانية ورؤيته الكونية الحيوية التي يمكن أن نصفها بأنها وحدة وجود متطورة كانت أبعد ما تكون عن الثورة والجدلية بمعنيهما المحدد عند هيجل أو ماركس فيما بعد - إذا صرفنا النظر عن هذا كله، فكيف يمكن أن نطبق «قراءة» سياسية واحدة على كل أعماله مهما تفاوتت ظلالها ودرجاتها؟ ربما أمكن قراءة مسرحياته عن «جوتز» و«أجمونت» و«الابنة الطبيعية» قراءة سياسة حديثة تستنبط منها دلالاتها الاجتماعية والتاريخية، ولكن هذه القراءة تصبح أمرا متعذرا مع نصوص أخرى مثل «فيرتر» و«فاوست». وحتى لو سلمنا بأن النسق العقائدي والفكري (أي الأيديولوجية) يشكل داخل العمل أفقا محددا لمبدعه، سواء أكان واعيا بذلك أم لم يكن، فلا بد أيضا من التسليم بأن المبدع الحقيقي يمكنه أن يخترق هذا النسق أو يكسره في مواضع عدة أو يغيره، ويستبدل به أفكارا ومعتقدات أخرى خلاقة لا تجعله مجرد «انعكاس» لنسق عصره (ولا ننسى أن نظرية الانعكاس الماركسية، سواء في المعرفة أو الفن، قد أصبحت اليوم نظرية واضحة التهافت)، ولا مجرد انعكاس لأيديولوجية الناقد نفسه الذي يحاول أن يقترب من حقيقة النص ويقربنا منها! وقد يمكن في النهاية أن نقبل تحليلات «لوكاش» لو توسعنا في مفهوم الأيديولوجية، بحيث لا تعني نسقا شموليا موحدا، بل مجموعة من الأفكار والمعتقدات بينها تشابه أسري (على حد تعبير فتجنشتين في كتابيه الأزرق والبني)، إن هذا الفهم يتيح للمبدع فرصة التحرر والتعبير عن خصوصيات لا تندرج في أيديولوجية محددة، كما يتيح للناقد أن يتحرر في ضم عناصرها واستشفاف رؤية موحدة منها، قابلة للتقطع والتكسر والاختراق والتحرر من الشمولية المجردة لتستجيب لخصوصية تجاربه ورؤاه الإبداعية نفسها،

5

ويقتضيني الإنصاف أن أقول إن لوكاش قد حاول شيئا من هذا فهي مواضع كثيرة من كتابه، ولكن بدرجة أقل من المتوقع مع أديب مثل «جوته» طغت مثله الإنسانية والروحية على مثله السياسية والاجتماعية المفترضة (وليته قد اهتم اهتماما حقيقيا بالتفرقة الأساسية المعروفة التي أقامها العالم اللغوي دوسوسير بين اللغة والكلام).

خلاصة القول إن المقولة الرئيسية في النقد الأدبي الماركسي قديمه وحديثه (وهي أن الأدب نتاج الأوضاع التاريخية) لا يصح أن تتحول إلى طوق حديدي يلتف حول النصوص، ويخنق أنفاسها (وخصوصا نصوص العباقرة الذين عبروا عن عصورهم بقدر ما تجاوزوها)، ولا يدع لها ولا لأصحابها مجالا للإيماء واللمح والإشارة إلى آفاق أبعد من التربة التاريخية والاجتماعية، ولا يتيح النظر في نسيجها الفني نظرا كافيا. ثم إن تفسير لوكاش أو غيره لا بد أن يتأثر بأوضاع المفسر التاريخية، ولعله أن يفرض على جوته أو غيره جزءا غير يسير من أيديولوجيته هو نفسه. ولهذا فإن دراسة لوكاش لتاريخية جوته وعصره يجب أن تكملها كما أشرت إلى ذلك من قبل دراسة أخرى لتاريخية نقد لوكاش، والعوامل التي شكلته والدوافع والرغبات التي حركته. ويمكنني في النهاية أن أتمثل بالعبارة الشهيرة التي قالها «إنجلز» في كتابه عن «فويرباخ» ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية (1888م)؛ لكي أؤكد أن أدب جوته، كما يثبت كتاب لوكاش نفسه لمن يقرأ ما بين سطوره وينطقه بما لم ينطق به إلا على نحو غير مباشر! ليس مجرد انعكاس لأيديولوجية عصر لم يكن قد أدرك أيديولوجيته بعد بصورة كافية واعية. وسواء غير جوته عنها أم عن بعض عناصرها أو تحداها وخرج عليها في مواضع كثيرة، فإنه قد أكد الاستقلال النسبي لأدبه وفكره. تقول عبارة إنجلز التي أشرت إليها: «إن الفن أكثر غنى وصعوبة من النظرية السياسية والاجتماعية؛ لأنه أقل منها أيديولوجية»، وإذا كان لوكاش لم يتذكر هذه العبارة، أو لم يستفد منها تماما في تأليف كتابه، فإن أصالته لا تكمن في تطبيق المنهج الاجتماعي التاريخي على أدب جوته وعصره - لأن هذا شيء مألوف ومكرر عنده غيره - وإنما تكمن في فهمه الثوري لهذا الأدب، ولمجموع الأفكار والقيم والمثل والمشاعر التي قدمها لنا في صورة غنية حية مؤثرة. (4)

Bog aan la aqoon