Maanso iyo Fikir
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Noocyada
أقمت مع صلاح - وكان كلانا عزبا مشردا لا يزال - في مسكن واحد بين سنتي 1956، 1957م، لم نفترق إلا لكي أسافر إلى ألمانيا، ويقيم في بيت قريب من دار روزاليوسف التي ألتحق بها بعد أن طلق التدريس. وعدت بعد خمس سنوات ليتصل الحب واللقاء الذي لا أتصور قوة يمكن أن تقطعه، ولا لغة يمكن أن تعبر عنه. نقرأ ما نكتب، ونعقب عليه، ونتعاتب ونضحك، ونبكي أحيانا، ونفترق ليلة الثلاثاء إلى لقاء. أعمالنا كالمرايا التي نرى فيها وجوهنا وقلوبنا. وكل منا يكمل الآخر، ويشجعه، ويستند عليه أو يسنده إلى صدره. أشعار صلاح هي صوتنا الذي لم ينطلق إلا منه؛ لأنه أقدرنا وأكثرنا موهبة. ولو نظر ناقد في هذه الأعمال المختلفة لوجد بصمات من عمرنا قيدت في الكلمة المطبوعة، وربما بقي بعضها في تاريخ أدبنا. قل بالله عليك كيف أصور بالكلمات شجرة عمرنا الملتفة الأغصان؟ يكفي أن أقول إنني أعطيت ست سنوات من عمري على الأقل حبا في عيني صلاح. وقد رويت هذا في مقدمة كتاب الشعر الحديث الذي عكفت عليه من مجرد كلمة عابرة منه في جلسة عابرة. يكفي أنني أعيش الآن ما تبقى من العمر على أمل الوفاء بعهدي لصلاح، أن أخرج ما في نفسي بعد أن طالت رقدته في أكفان العناد العلمي والغيبة عن الذات، هل ستمكنني الأيام فأوفي العهد؟ يكفي أن أقول لك أيضا البكائية التي كتبتها أخيرا وقرأتها منشورة في الآداب
4
يمكن أن تنوب عن قلمي العاجز، أو تشرح بعض ما قصر عنه البيان من أسرار الحب والوفاء. ويقيني أنه لو نسي الناس كل أعمالنا (والجحود هو طابع بلادنا، ألم أقل في تلك البكائية على لسان الحلاج إنها أقسى البلاد طرا في قتل أبنائها الموهوبين؟) ولو تنكرت الأجيال لتعبنا وعطائنا، فمن واجبها وصالحها أيضا ألا تجحد إخلاصنا، أو تنسى الحب الذي جمعنا، وهو في رأيي حب نادر في تاريخ الآداب.
تسألني عن عطاء صلاح، مع أني لست ناقدا بالمعنى الدقيق الذي يفترضه النقد الأدبي ولا بالثقافة الشاكلة التي يستوجبها، فأحاول باختصار أن أقول ما أستطيع:
لا بد أنك قرأت المراجعة النقدية التي كتبها في بداية حياته الأدبية عن عطاء طه حسين والمازني والحكيم والعقاد وجعل عنوانها هذا السؤال: ماذا يبقى منهم للتاريخ؟ ولو سألت اليوم: ماذا يبقى من صلاح للتاريخ؟ لقلت لك: لا أستطيع أنا ولا غيري أن نتنبأ بالمستقبل أو نتحول إلى منجمين. فلكل عصر كتابه وشعراؤه. والمشاهير في عصر قد يخبو بريقهم في عصر آخر، ومن يظن أنه يكتب «للخلود» يضاجع وهما وحلما مطلقا مستحيلا، ولكن يبقى المحك الذي لا يخطئ، والمقياس الذي لا يخيب أن أصدق الكتاب والشعراء تعبيرا عن عصره هو الذي يكتب له البقاء (النسبي في كل الأحوال). عاش مع المتنبي مئات الشعراء، فلماذا بقي شامخا واندثروا؟ لماذا بقي نجم شيكسبير ساطعا، وخبت نجوم أخرى لم تخل من الموهبة؟ إن شعر صلاح بوجه خاص شهادة أمينة وحزينة على جيل تعس وحزين، ويقيني أن اسمه سيسلك في عقد الشعراء العظام من كل العصور والآداب عندما ينجلي غبار المعاصرة وحجابها، وينصف الزمان الذي لا بد أن ينصف الصادقين.
تحمل صلاح عبء الكلمة، وكان إيمانه بالكلمة مبرر حياته. وبقي سؤاله الذي يعذبه: متى وكيف تصبح الكلمة فعلا؟ لعلك تذكر الأبيات المشهورة في مأساة الحلاج: ماذا أصنع؟ لا أملك إلا أن أتحدث، ولتنقل كلماتي الريح السواحة، ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية، فلعل فؤادا ظمآنا من أفئدة وجوه الأمة، يستعذب هذي الكلمات، فيخوض بها في الطرقات، يرعاها إن ولي الأمر، ويوفق بين القدرة والفكرة، ويزاوج بين الحكمة والفعل. هل كان يحلم حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف أو «منقذ» المدينة الذي يجمع في شخصه بين الفكرة والقدرة، والحكمة والقوة؟ أم كان يعبر عن الشوق - الأبدي المهزوم - إلى العدل، في زمن طغى فيه الاستبداد وتأله الجلاد؟ أم ينفض ما في صدره من سخط من ضياع الكلمة وامتهانها والتجارة بها في سوق الكذب والانتهازية والنخاسة ولعق أحذية القابضين على الصولجان؟ أم في النهاية عن يأس من تشردها وهوانها ويتمها وضيعتها في أمة الشعر التي فقد فيها الشعر بداهته وقوته الموروثة، وتحول إلى ثرثرة أو طنطنة أو اجترار أحلام مريضة؟ وحتى لو كانت هذه الأمة لا تزال تهتز للشعر، فكيف ينفذ إليها من سدود الأمية والذل والفقر، وخصوصا إذا كان شعرا حديثا يحتاج إلى ثقافة لا يملكها أكثر المثقفين؟ لقد ظل صلاح يتعذب بهذه المشكلة التي هي في الحقيقة مشكلة الإنسان العربي في هذه المرحلة التاريخية الانفصام بين الكلمة والفعل، إطلاق الأصوات الفارغة من المعنى ومن قابلية ترجمتها إلى أعمال. ولهذا رأى الأيام بلا أعمال، وصرخ صرخاته المدوية على لسان النبي المهزوم الذي يحمل قلما، وينتظر نبيا يحمل سيفا: يا أهل مدينتنا! هذا قولي: «انفجروا أو موتوا». وتعذب بالمشكلة إلى حد الاختناق بالصمت، وتخلي الشعر عنه، أو تخليه عن الشعر في السنوات الأخيرة من حياته، فتحولت ثورته المحيطة إلى الداخل، وتحول الثائر اليائس من جدوى الكلمة إلى صوفي صامت وحكيم محزون، فقد صلته بالواقع المريض والعالم المختل من حوله، ولم يعد أمامه إلا «الإبحار في الذاكرة» التزم الحلاج بأن يقول كلمته ودفع الثمن من دمه. والتزم صلاح بكلمته، وحمل عبئها، ودفع الثمن من حياته. لا أظن أن شاعرا غيره قد عبر عن أشكال الشعر في العصر الحاضر وأشكال أمة الشعر التي لم تعد تشعر، وأمة اقرأ التي لم تعد تقرأ أو تعي مثلما عبر صلاح عبد الصبور.
يتهم صلاح بحزنه ويدان على حزنه. وقد ناقش هذه القضية في سيرة حياته وكفاحه مع الشعر (حياتي في الشعر)، وأكد أنه شاعر متألم لا شاعر حزين، والواقع أن حزنه هو حزن جيله كله، الجيل الذي خرج من عباءة الرومانتيكية العربية، من حزن المنفلوطي وجبران وناجي وجماعة أبوللو، وحزن المواطن الصغير الذي نشأ في أحضان الطبقة المتوسطة الدنيا، مكبلا بضعفها وتعاستها وقيمها البالية وطموحها المادي والطبقي البائس، فاتجه بآماله وعواطفه إلى الثقافة و«العلم» و«الفن» ينشد فيها خلاصه. ولما يئس من جدوى الكلمة وعجزها عن تغيير الواقع، وتفجير صخرة البنية الاجتماعية والسياسية المتحجرة أيقن أن الثائر الحق هو الحكيم المحزون، وأصبح حزنه هو ثورته المهزومة في أعماقه. واستحال الحزن الذاتي - بعد أن سلم به، ونفض يديه من شهوة إصلاح العالم، وبعد أن كسرت راياته ولم تنفعه فلسفته، وداس الأوغاد على فؤاد «الفارس القديم» - استحال هذا الحزن الذاتي إلى حزن كوني، وموقف عام من الوجود، وحالة وجدانية لا مهرب منها إلا إليها، ها هو ذا يخاطب أوغاد العصر وفرسانه المهزومين في «حكاية المغني الحزين»: «لعلكم لا تعرفون الحزن يا سادتي الفرسان (وإن عرفتموه فهو ليس حزني)،
حزني لا تطفئه الخمر ولا المياه،
حزني لا تطرده الصلاة،
قافلة موسوقة بالموت في الغرار،
Bog aan la aqoon