Maanso iyo Fikir
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Noocyada
إن الشاعر هنا بعيد عن هدفه. يقضي ليلته في الصحراء المترامية الأطراف، ويفكر في الأميال التي تفصله عن حبيبته فيبكي. غير أن بعد هذا المكان لا يبعده عنه في الحقيقة؛ ذلك لأنه يظل شيئا يحن إليه كما يظل شيئا مألوفا لديه، قريبا منه بالتذكر والشوق، يمكن الوصول إليه بين يوم وآخر. إنه حزين حقا، لكنه حزن يمكن أن يجد العزاء. بل إنه ليعزي نفسه حين يتذكر أبطالا قدامى، بكوا حقا، والبكاء لا يعيب الرجال.
أما شاعرنا «لوركا» فيقول في مطلع قصيدته: إن قرطبة بعيدة. ولا يصح أن نتصور أنه بعد مكاني. فالفارس يرى المدينة أمام عينيه، ولكنها بعيدة عنه بعدا مطلقا على الرغم من قرب المسافة التي تفصله عنها. إن هناك لغزا محيرا يتمثل في شبح الموت الذي يطارده ويبعد المدينة عنه كما يبعده عنها. ما من شوق ولا دموع ولا عزاء عن هذا الإحساس الفاجع بالبعد المحتوم. فالنفس تعيش في يأس مطبق. والشاعر ينادي الجواد والطريق والموت، وهذا هو كل شيء. أضف إلى ذلك تلك الجمل التي تدور في شبه دائرة ناقصة، وتخلق باستغنائها عن الأفعال صورة لغوية تعبر عن استسلام الشاعر للغربة، وخوفه من الخطر الجاثم عليه.
هكذا يتجلى لنا الفرق بين أسلوبين في التعبير الشعري. فالهدف البعيد في المكان يظل قريبا من نفوس القدماء. إنهم يتصورونه ويحنون إليه ويبكونه، ويعزون أنفسهم بقرب الوصول إليه. أما المحدثون ، فيتحول القرب المكاني عندهم إلى بعد هائل مخيف تحس به نفوسهم أوضح إحساس وأقساه. الشاعر القديم مطمئن للعودة إلى بيته وأهله. أما الشاعر الحديث فيعلم أن هذه العودة مستحيلة؛ لأن هناك قدرا يأسره ويتسلط عليه، ويبعد الوطن عنه، أو يبعده عن الوطن. إنه ليس غريبا في هذا العالم فحسب، بل إن العالم نفسه قد صار غريبا عليه. (7) خاتمة
إن الشاعر الحديث يحس بأن القوى التي تهدد حريته تزداد كل يوم، ولذلك يزداد تلهفه عليها وتشبثه بها. وهو لا يبخل في سبيل ذلك بشيء ولا تعز عليه تضحية، ولو أدى به الأمر إلى تحطيم الواقع وإعادة النظر في كل المقدسات والانفصام عن التراث أو معاداته والسخرية منه.
لم يعد الشاعر يجد الراحة والاطمئنان في الواقع التاريخي أو الموضوعي المحيط به، ولا عاد يشعر بقربه من حقيقة عالية كانت تطل على أسلافه وترعاهم. لذلك راح يخلق لنفسه عالما جديدا من خياله، ويبدع بالكلمة الشاعرة وحدها مملكة تعادي كل ما هو مألوف، وتناقض كل ما كان يفوح برائحة الثبات والاطمئنان.
الشعر الحديث أشبه بحكاية أو «حدوتة» عظيمة لم تسمع من قبل، ولكنها حدوتة وحيدة شديدة الوحدة. إنه بستان تنمو فيه الزهور، ولكنه يمتلئ كذلك بالأشواك والأحجار، وتكثر فيه الثمار، كما تكثر العقاقير والسموم الخطرة. إذا أراد القارئ أن يتجول في طرقاته أو يعيش في جوه المتقلب، فعليه أن يتحمل أقصى ما يستطيعه من العذاب والشقاء. وإذا أمكنه أن يسمع شيئا، فربما سمع في هذا الشعر صوت الحب الوحيد العنيد الذي يرفض أن يستهلكه القراء و«المعجبون»، ويؤثر أن يضل في المتاهات، أو يتحدث في الفراغ على أن يتحدث إلينا أو يتقرب منا . إن القصيدة الواحدة تمتلئ بأطلال الواقع الذي فككه الخيال الجريء ومزقه، ولكن هناك عوالم أخرى «غير واقعية» تسبح فوقها، وتكون مع تلك الأطلال ذلك السحر الذي يدفع الشعراء إلى تأليف شعرهم، كما يدفع القراء إلى التحمس له أو النفور منه.
لقد امتلأت لغة الشعر كما قدمت بالأنغام الناشزة والصور المتنافرة، شأنها في ذلك شأن لغة الموسيقى الحديثة أو الرسم والتصوير. ولكنها ستظل لغة شعرية، وإن استعصت على الفهم في معظم الأحيان. إن الشعراء يحسون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنهم وحيدون مع اللغة، ولكنهم يحسون كذلك أن اللغة هي ملجؤهم الوحيد. كما يعرف أكثرهم وحدة أنه يتصل على الرغم من كل شيء بنوع من الخلود الذي يمتد من الأزل، ويدوم إلى الأبد، وأعني به حرية اللغة، وقدرتها المستمرة على الابتكار، والتجربة، واللعب، والغناء.
ونسأل الآن سؤالا ربما طاف بذهن القارئ: ما هو مستقبل الشعر الحديث؟ والحق أن الجواب على هذا السؤال شيء عسير، إن لم يكن مستحيلا. فلا يدري أحد حين تنشب ثورة كيف ولا أين ستنتهي، وقد يقول قائل إن ثورة الشعر الحديث قد أوشكت أن تبلغ نهايتها إن لم تكن قد بلغتها بالفعل، وإن الشعر الجديد قد أوشك أن يستنفد طاقاته، ولا بد أن يبحث الشعراء والنقاد عن مخرج جديد.
ولكن كيف يبدو هذا المخرج، وعلى يد أي عبقري سيتم؟ هل سيبتعد عن الموجات الصاخبة والشعارات الصارخة والمدارس المتحمسة والبيانات المزهوة بكل جديد؟ أم سيظل يدور تلك الدورة المحتومة التي كتبت على كل نشاط يبذله الإنسان؟
لا أحد يدري كما قلت. وترك الأسئلة مفتوحة لا يعني أن نتشاءم أو نستسلم للحزن. فهذا شيء لا بد أن نرفضه ونقاومه دائما، وبكل ما نستطيع من وسائل (ومنها الشعر)، ولكنه يعني أننا لا نستطيع أن نتنبأ بمستقبل الشعر ولا بمستقبل غيره من الفنون، وكل ما نستطيعه أو ما يجب أن نفعله هو أن «نعرف» حالته الحاضرة، و«نفهم» كيف وصل إلى ما هو عليه.
Bog aan la aqoon