Maanso iyo Fikir
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Noocyada
ويتضح من البناء الشكلي للرواية أن نجيب محفوظ لا يتجه بحديثه إلى صفوة مثقفة أو دائرة صغيرة من أصحاب الاهتمامات الأدبية، وإنما يتجه به إلى الشعب. وهل كان من الممكن أن ينشرها على صورة رواية مسلسلة في صحيفة يومية لو كان الأمر على خلاف ذلك؟ إن الأسلوب موضوعي. وكل وصف يؤدي وظيفته أداء مباشرا في سياق العرض، لا تحليق مع الخيال، ولا إغراق في سرد المعلومات التاريخية (قارن بين ما فعله نجيب محفوظ وبين ما فعله توماس مان بموضوع موسى في قصته المعروفة باسم «القانون») ويندر أن تبدو التأملات صادرة عن المؤلف، فهو بوجه عام قد وضعها في أقوال شخصياته وأفكارهم. هذه الشخصيات لا تجسد بالدرجة الأولى أناسا من لحم ودم، وإنما تجسد أفكارا وآراء، هنا يتذكر القارئ روايات فولتير الفلسفية والرمزية، كما أن نجيب محفوظ ذاته يقارن نفسه بسويفت (وإن يكن في الحقيقة يميز نفسه منه، ففي رأيه أن سويفت - في رحلات جليفر - قد نقد الواقع عن طريق الأسطورة، أما هو فقد نقد الأسطورة من خلال الواقع).
9
ومع هذا فلن نجد في الرواية وعظا - على الرغم من الجانب التعليمي المقصود - كما أن الحيوية التي تفتقدها الرواية عن طريق الصنعة الواضحة في بناء الشخصيات والأحداث تعوضها إلى حد كبير واقعية المشكلة الأساسية، وتصوير البيئة تصويرا حيا ملموسا. إن القارئ يجد الحياة مرسومة أمامه على النحو الذي يألفها عليه (ويكفي أن نفكر في تدخين الحشيش)، غير أنه يفاجأ ببعض المواقف التي تدفعه دفعا إلى أن يسأل نفسه إن كانت هذه الحياة المألوفة هي الحياة السليمة الطيبة التي يمكن قبولها على المدى الطويل.
إن الحدث المشوق هو الذي يحتل مركز الصدارة، وإن كان التشويق، كما ذكرنا، لا يكمن فيما يحدث، بل في كيفية حدوثه. ومن الواضح أن المؤلف يريد أن يشد اهتمام القارئ البسيط، ويأسره ليتمكن بعد ذلك من إثارة تفكيره.
ربما تبادر إلى الظن أن كتابة الحوار على الأقل باللغة العامية، إن لم نقل كتابة الرواية كلها، كانت تكون أقدر على تحقيق هذا الهدف، ولكن نجيب محفوظ يقصر استخدامه للعامية على الأغنيات والأمثال الشعبية التي يقتبسها، بالإضافة إلى بضع كلمات ومصطلحات تجري على الألسنة في الحياة اليومية، ولو نقلت إلى اللغة الفصحى لبعدت عن هذه الحياة بعدا كبيرا (فالمائدة تظل طرابيزة، والأريكة كنبة، والعرب التي يجرها حصان عربة كارو ... إلخ) وكل ما خلا ذلك مكتوب باللغة الفصحى التي يتردد فيها أحيانا إيقاع قرآني (مثل التعبير الوارد على صفحة 344 يؤدي الإتاوة صاغرا) أو في صيغ عتيقة مثل «فوه» بدلا من «فمه»، و«فيه» بدلا من «فمه»، و«فاك» بدلا من «فمك» (ص55، 69، 67، على عكس الصيغ المألوفة التي ترد على سبيل المثال ص119، 507)، وقد نعجب أيضا لوجود تعبير عامي مألوف مثل «ما فيش فايدة» على هذه الصورة ما فيها (أي الدنيا) فائدة (ص448، وربما كانت هنا إشارة إلى تعبير منسوب لسعد زغلول)، ولكن النص في جملته - بصرف النظر عن هذه المواضع القليلة - نص سهل ومقروء، وهذا أمر يتفق مع من يقصده المؤلف. لقد طالما وجه اللوم إلى نجيب محفوظ بسبب تمسكه باللغة الفصحى، ولكنه لم يحد عن رأيه أبدا، ولم يحاول أن يجعل منه مذهبا متزمتا. لقد وجد لغة الكتابة التي أمامه هي اللغة الفصحى، ووجد من طبائع الأمور أن يستعملها فيما يكتب. والواقع أن استعمال العامية يمكن أن يصدم كثيرا من القراء، بدلا من أن يؤثر فيهم تأثيرا مباشرا؛ إذ ليس من المألوف أن تتناول الموضوعات الجادة. أضف إلى هذا دور الفصحى بوصفها وسيلة التفاهم في العالم العربي كله، ونجيب محفوظ لا يكتب لمواطنيه المصريين وحدهم. وأخيرا فإن اللغة الدارجة تعد في رأيه علامة على الجهل، وهي لن تصلح للاستعمال في عمل فني يهدف إلى نشر الروح العلمية.
10
أما عن الأثر الذي تركته أولاد حارتنا، فيحتمل أن تكون ظروف النشر قد قللت منه إلى حد كبير. حقا إن نشرها في «الأهرام» قد قربها لجمهور عريض من القراء، ولكن لا شك في أنها قد عانت من تقسيمها إلى حلقات عديدة لم يراع فيها دائما أن تكون مطابقة لتسلسل المعنى.
11
ولقد أثار مضمون الرواية - قبل أن يتم فهمه كاملا - عاصفة من الاهتمام والاتهام. ويقال إن الدوائر الأدبية راحت تتنافس في تأويلاتها المثيرة، بينما عبرت القوى المحافظة، وفي مقدمتها الأزهر، عن استنكارها وسخطها على التجرؤ على المقدسات الذي تصورت وجوده في الرواية.
12
Bog aan la aqoon