210

Maanso iyo Fikir

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Noocyada

بيد أن هذه اللغة الغاضبة الجارفة لم تستطع أن تخفي الإحساس بأزمة تاريخية متوقعة، تنبأ نيتشه بأن القرن العشرين سيشهد حربا طاحنة لن يعرف لها العالم مثيلا من قبل. وزعم أنه سيفرح فرحة كبرى بهذه الحرب. وهو في هذا يخطئ تقدير نفسه النقية الطاهرة، كما ينسى أنه أعلن عن نفسه في كتابه الأكبر الذي لم يستطع أن يتمه (وهو إرادة القوة) أنه آخر العدميين. فكيف كان يرضى لنفسه أن يشهد ذلك العدم والدمار الرهيب الذي شهده العالم في حربين عالميتين ؟ وكيف كان يتردد لحظة واحدة في التبرؤ مما اقترفه النازيون باسمه، وتحت شعار فلسفته التي أخطئوا فهمها وتجنوا عليها؟

ها هو ذا رجل آخر يأتي بعده - مؤرخ أصيل بحق - (يعقوب بوخارت) فيشك في معنى التاريخ، وييأس من هدفه الذي بحث عنه كانط وشيلر وهيجل، ويعود مرة أخرى إلى رأي العصور القديمة عند اليونان والرومان تعب الإنسان لا يتغير. موجة تعلو موجة تهبط. كما في الماضي كذلك في الحاضر والمستقبل. لا جديد هناك. لا أمل ولا نجاة. ومع هذا فلم يستطع بورخارت أن يخفي إحساسه بالأزمة. صحيح أن روح التشاؤم تظلل تأملاته في تاريخ العالم كالسحابة الهادئة القائمة، ولكن رؤاه القلقة على مصير الإنسان تلمح كالبروق في ثنايا رسائله وخطاباته الشخصية.

لم يختف الإحساس بالأزمة منذ ذلك الحين من فلسفة التاريخ، لم يختف من أي تفكير في مستقبل العالم والحضارة والإنسان. سواء بالأمل أو باليأس، سواء تنبأ بنهاية التاريخ كله، أو تنبأ بنهاية التاريخ الماضي، وراح يعلن عن بداية التاريخ الحق، التاريخ الحر العادل المجيد. •••

لا نستطيع أن نختم هذا العرض السريع بغير أن نذكر اسم أزفالد إشبنجلر. قد تكون فلسفته اليوم خاطئة في بنائها العام، وهناك بالفعل أكثر من دليل على خطئها، ولكن لا شك أن إشبلنجر - الذي وضع كتابه عن تدهور الغرب تحت تأثير الحرب العالمية الأولى - قد خاطب جيله، وعبر عن عصره، ورسم صورا تاريخية غنية رائعة تدل على نفاذ بصيرته، وقدم مجموعة من الملاحظات عن الحاضر والمستقبل أثبتت الأيام صدقها، وإن كان قد حشاها في ذلك البناء العام، الذي لا يتسع المجال لبيان خطئه. المهم أنه يثبت لنا كما أثبت كل من حاول ذلك قبله أن تصور التاريخ في صورة شاملة تامة مغلقة لم يعد أمرا ممكنا ولا مفيدا، وأن محاول الإنسان أن يحدد معنى التاريخ وهدفه، ويتنبأ بمستقبله محاولة مقضي عليها بالفشل؛ ذلك لأنها تفوق طموحه وقدرته وطبيعته المحدودة الفانية، ولأنه - أي الإنسان - يحيا في الزمن ويرتبط به، ولذلك فلا يمكنه أن يحدد معناه وهدفه من داخله. إن فلاسفة التاريخ قد وضعوا لغز الوجود والإنسان في قلب الزمن، وأرادوا أن يلتمسوا التحقق التام - أي الوحدة الكاملة بين الوجود والفكرة، أو بين الواقع والواجب - في هذا الزمن المتحول نفسه، مع أن هذه الوحدة لا يمكن أن توجد على الأرض ولا في الزمن. قد يستطيع الزمن أو التاريخ - بأزماته وكوارثه، بانتصاراته وهزائمه، بأفراحه وآلامه - أن يكشف لنا عن معنى المطلق أو المتعالي أو الروح الكلي أو الفردوس الأخير أو ما شئنا من أسماء لا تسميه، ولكنه لن يستطيع أبدا أن يوجده في الزمن، لن يستطيع أن يحققه على الأرض.

أدركت فلسفة التاريخ - منذ عهد القديس أوغسطين إلى اليوم - معنى الزمن، وعرفت أنه يكمن في التحول والتغير والتجدد. هذا كشف ضخم لن نفقده بعد اليوم. لا يمكن أن نرجع للوراء، لا يمكن أن نعود لتصور «توكيديدس» أو غيره من مؤرخي الإغريق والرومان. هؤلاء الذين اعتقدوا أن الخير كله في العصور الذهبية الماضية، وأن الزمن لا يأتي بجديد، ولكن لا يمكن أيضا - بعد مسيرة ستة عشر قرنا من أيام أوغسطين - أن يظل الإنسان يبحث عن المطلق في الزمن والتاريخ، مع أن المطلق نفسه - أيا كان الاسم الذي نعطيه له، وسواء وضعناه في عالم آخر أو قلبناه ووضعناه على الأرض - لا بد - بحسب اسمه نفسه - أن يظل خارج الزمن والتاريخ. كل ما يستطيع الزمن أن يفعله هو كما قلت أن يكشف عنه، أن يرينا لمحة منه، ويشدنا إليه، أما تحقيقه في التاريخ فهو المستحيل بعينه. وتحقيق هذا المستحيل - في ثوبه المقدس أو في أثوابه الأرضية - هو الذي جر الغرب ومعه بقية العالم إلى الأزمات المتوالية التي لاحظها فلاسفته ومؤرخوه، وجر البشرية اليوم - إزاء التقدم المذهل في العلم والتقنية وأسلحة الدمار والتأخر المذهل أيضا في الضمير والأخلاق - إلى الاختيار المحتوم الذي تنبأ به كانط، فإما الفناء المطلق الذي يتساوى فيه الغالب والمغلوب في راحة القبر، وإما التعلم من دروس غاندي ومارتن لوثر كنج في العصر الحديث، ومن تعاليم الحكماء والشعراء في كل العصور، بل ومن مجرد النظر إلى براءة الطفل والحيوان، واحترام الحياة في كل مظاهرها الطبيعية المحيطة بنا، وإن كنا كالعميان لا نراها، أي بالتخلي عن القوة والعنف، وترويض الغرائز المظلمة العمياء، ومحاولة العيش في سلام، وتحمل المسئولية المشتركة عن حاضر الجنس البشري ومصيره. •••

هل نستخلص مما سبق أن جميع المؤرخين الذين ذكرناهم مخطئون؟ بالطبع لا، ولا يمكن أن يصل بنا الغرور أو الغباء إلى هذا الحد. لقد أحسوا بأزمات عصرهم، وحاولوا أن يعبروا عنها أو يفسروها أو يقترحوا لها الدواء، أو يحملوا إلى أجيالهم بعض الراحة والأمل والعزاء. ولقد أصبح الإحساس بالأزمة بفضل هؤلاء الفلاسفة والمؤرخين جزءا لا يتجزأ من فهمنا للتاريخ، بل إن هذا الإحساس قد زاد اليوم عنه في أي وقت مضى. فإذا قلنا أن البشرية تمر بمرحلة لا نظير لها في تاريخها الطويل لم يكن قولنا مجرد ترديد أو تأثر ساذج بما سبق، وأمكن أن يصدقنا الجميع، لا فرق في ذلك بين الفيلسوف ورجل الشارع. ألم يسر الإنسان على أرض القمر مرتين؟ ألا يدل هذا على أن العقل البشري قد بلغ أقصى درجات تقدمه، وأنه - وهذا هو الأهم - لا يزال يواصل تقدمه ولا نهاية للآفاق التي يتطلع إليها ولا للمفاجآت التي ننتظرها منه؟ ومع ذلك فلا يزال الألوف يموتون من الجوع أو التعذيب أو المذابح الجماعية في فيتنام أو العدوان البشع على شعب فلسطين والشعوب العربية، ألا يدل هذا من ناحية أخرى على أن نفس العقل البشري قد بلغ أقصى درجات تأخره؟ ألا يثبت أن التوازن الذي حلم به كانط أو غيره بين العقل والضمير وبين العلم والخلق قد اختل أفظع اختلال، وأن هذا العقل ينطلق الآن بسرعة الصاروخ، بينما الضمير يلهث على عكازه وراءه؟ ألم يأت اليوم الذي تنبأ به حكيم كونجسبرج يوم تجد البشرية نفسها أمام اختيار وحيد بين فناء مطلق بفعل الأسلحة المهلكة، أو تعايش في سلاح منظم دائم في ظل «جمعية من الأمم المستقلة»؟ ألا نعيش الآن في هذا اليوم؟

ولكن «جمعية الأمم » التي كان يحلم بها كانط قد وجدت واتحدت، والبشرية تتحرك كل لحظة - حقيقة لا مجازا، واقعا لا تشاؤما - على حافة الهاوية. فما بال الضمير العالمي لا يستيقظ؟ وإذا كان قد استيقظ لدفع ظلم بشع - كحرب الإبادة في فيتنام - فلم لا يتحرك بنفس القوة لدفع ظلم لا يقل عنه بشاعة كتشريد شعب من وطنه؟ أين ضمير الشباب النقي؟ وأين ضمائر علماء العالم ومفكريه ومثقفيه؟ وكيف لا تتفق على استنكار كل هذه الجرائم التي تتستر وراء الأكاذيب والخرافات المتعصبة؟ وإذا كانت أكاذيب الصهيونيين وخرافاتهم قد خدعت عددا كبيرا من الناس العاديين، فكيف استطاعت أن تخدع هذه الصفوة التي ينبغي أن تفكر لنفسها وبنفسها؟ •••

لا يستطيع المؤرخ أو الفيلسوف أن ينفصل عن عصره، ولا يملك - كما قال هيجل - إلا أن يكون تعبيرا عن زمنه ومرآة له. وأقصى ما يطمع فيه المؤرخ أو الفيلسوف هو أن ينطق بلسان جيله، أن يصور أزمته، أن يخاطب ضميره، أن ينبه، ويوقظ، ويثير.

وليس كاتب السطور مؤرخا ولا فيلسوفا. إن أقصى طموحه أن يكون مجرد شاهد أمين، وهو يشترك في هذا مع كل من يكتب، وهو لا يستطيع مهما طالت به الرحلة بين العصور أن ينفصل عن عصره وجيله وأهله. ففي الوقت الذي يكتب فيه هذا الكلام، وفي الوقت الذي تقرءونه يضحي إخوة لكم وله بحياتهم وينزفون دماءهم، لا لكي نكتب عن معنى التاريخ أو نتفلسف في أزمته. فالشيء الوحيد الذي يجدي في هذا الموقف الذي نعيشه اليوم هو نقطة الدم وطلقة الرصاص. وإن يقيننا وعزاءنا الوحيد هو أننا جميعا نشترك في معركة واحدة كبيرة، وأننا - كما قال شكري محمد عياد في تعبير صادق جميل - نقف جميعا في صف واحد كبير، وننتظر دورنا. هؤلاء الإخوة يعطون للتاريخ بهذه الدماء التي يبذلونها معناه الحقيقي الدافئ، ويجسمون أزمته لكل من يرى، وكل من يحس. إنهم أيضا يسألون بطريقتهم التي لا يوجد الآن سواها: إلى أن يسير التاريخ؟ وهم لا يسألون فحسب، بل يجيبون بالفعل، بالدم والشجاعة، بالمدفع والطائرة، بالعبور كل ليلة، بتثبيت العلم على الأرض التي يدنسها العدو. وهم أيضا يخاطبون الضمير العالمي بطريقتهم: لماذا لا تستيقظ؟ أهناك دليل على أزمة الجنس البشري أوضح من هذه الأزمة التي نعيشها في هذه المنطقة من العالم؟ أهناك دليل على تقدم العلم والتقنية إلى أبعد حد وتأخر الخلق والضمير إلى أبعد حد أيضا من هذه الدولة الصغيرة المغرورة التي تفكر تفكير العصابات، وتسرق وتنهب وتقتل كما تفعل العصابات؟

لقد استعارت التقدم العقلي والعلمي فجاءها جاهزا من تلك الدولة الكبيرة التي تمثل النموذج الصارخ لتفوق العقل إلى أقصى حد وتخلف الضمير إلى أقصى الحدود. وإذا لم تستيقظ الآن يا ضمير العالم ويا مناط الأمل الوحيد الباقي للجنس البشري، فمتى تستيقظ؟! ألا تريد أن تفتح عينيك إلا والبشرية في قرار الهاوية؟

Bog aan la aqoon