207

Maanso iyo Fikir

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Noocyada

هذه الأشكال المختلفة من فلسفة التاريخ يمكن أن تتداخل وتتشابك. غير أننا سنحاول أن نفرق بينها توضيحا للأمور. فالمؤرخ - طالما كان له عقل، وكان لديه الاستعداد لاستخدام هذا العقل - لا بد أن يكون فيلسوفا للتاريخ. وهو مضطر أن يفعل ذلك كما قلت سواء قصد إليه عن وعي أو لم يقصد إليه. إنه يواجه بالضرورة مشكلات تتصل بفلسفة التاريخ، ولا بد أن يدلي فيها برأي. هناك مؤرخون أصبحوا فلاسفة للتاريخ عندما وضعوا علمهم كله موضع السؤال، أي عندما حاولوا أن يقيموه على أسس جديدة. ثم هناك المؤلفات الكبرى في فلسفة التاريخ، أي التأملات النظرية في معنى التاريخ وغايته، أي ما يمكن أن نسميه ميتافيزيقا التاريخ. •••

لننظر الآن نظرة سريعة فيما حققته وما فكرت فيه فلسفة التاريخ منذ نشأتها الأولى. إن كلمة التاريخ - مثلها في هذا مثل كلمة الفلسفة - ترجع من حيث اللفظ والمضمون إلى اليونان. فالتاريخ - أو الهستوريا

Historia - كلمة تدل على البحث والفحص والنظر. واليونان الذين وضعوا أسس الفلسفة الغربية هم كذلك الذين وضعوا أسس التاريخ. ومع ذلك فإن اليونان لم يفهموا من التاريخ ما نفهمه اليوم منه، بل لم يكن من طبيعة الفكر اليوناني أن يفهمه. والسبب أنه كان يبحث دائما عن الوجود الخالد، والحقيقة الخالدة، والجمال والخير الخالدين، أي كان يبحث عن شيء، ثابت لا يتغير، في حين أن ماهية التاريخ، أي ما يحدث في الزمن، هي التغير. كان في استطاعتهم أن يعرفوا الرياضة والهندسة والأخلاق، أما التاريخ، هذا الذي يتغير ويتحول ويزول على الدوام، فلم يكن في استطاعتهم أن يعرفوه، ومن ثم فلم يكن في نهاية الأمر جديرا بالمعرفة. قد يصعب علينا أن نصدق أن مفكرا عظيما مثل أفلاطون لم يكن يهتم كثيرا بالتاريخ، ولكن هذه هي الحقيقة. إن الدولة أو الجمهورية التي فكر فيها معزولة عن جيرانها بقدر ما هي معزولة عن التاريخ. لقد تصور أنها يجب أن تبقى كما هي، أو كما كانت في تفكيره وفي محاوراته المشهورة، وهو شيء يستحيل تصوره عن دولة تعيش في التاريخ، ولا بد أن تتغير بتغيره.

وجاء أرسطو فكان أوفر حظا منه في السياسة، أو كان - كما نقول اليوم وكما أراد هو لنفسه - أكثر واقعية من أستاذه. جمع في كتبه مادة تاريخية غنية، وقارن بين الدساتير المختلفة، ونظر في مزاياها وعيوبها كما يفعل اليوم أستاذ في العلوم السياسية، ولكن اهتمامه ظل منصبا على كل ما يبقى ويدوم ويتكرر كأنه قانون لا يتغير، ونظرته ظلت معلقة بالنظام الشامل المحدود المغلق على نفسه. وقل مثل هذا عن أعظم مؤرخي الإغريق، وهو الأثيني «توكيديوس»، الذي كتب عن الحرب البليبونيزية (وهي الحرب الأهلية التي دارت على ثلاث مراحل بين أثينا وإسبرطة من سنة 431 إلى 404ق.م.) أروع تاريخ يمكن أن يخطه قلم. إنه ينظر نظرات عميقة في النشاط السياسي لبني الإنسان، في الحروب والثورات، في الصراع بين الدول والأحزاب والطبقات، في الكفاح من أجل تحقيق التوازن أو التسلط على الغير، في تأثير المصالح الاقتصادية على السياسة ودورها في التفوق في البر أو البحر. وهو كاتب موهوب، يملك القدرة على تصوير الناس والمشاهد في صور حية نكاد نراها ونلمسها، ولكن هذا المؤرخ العظيم يبحث أيضا عما يبقى ويدوم ويتكرر. إنه رجل يائس محدود الأفق ... يروي لنا تاريخ تلك الحروب البيلوبوينزية أو الحرب العالمية اليونانية، ويمر على ما سبقها مر الكرام، بل إنه ليصرح بأنه لم يسبق أن وقع حادث يمكن أن يقارن بهذا الحادث الخطير. لذلك لم يواصل أحد هذا التاريخ، ولم يكن من الممكن أن يواصله أحد. إنه كاللوحة التي لا تحتاج لمن يكملها؛ لأنها كاملة ومكتفية بذاتها، هو أقرب إلى «تاريخ معين» منه إلى «التاريخ». إنه يروي للأجيال المقبلة لكي تتهيأ لمواجهة تواريخ أخرى مشابهة قد تعرض لها؛ لأن ما حدث بين أثينا وإسبرطة سوف يحدث بين غيرها من المدن ويتكرر حدوثه طالما بقيت الطبيعة البشرية على حالها. وهل تتغير طبيعة البشر؟

إن كانت هذه فلسفة تاريخ فهي فلسفة يائسة، خالية من كل عزاء، بل هي لا تبحث عن معنى ولا أمل ولا عزاء؛ لأن التاريخ في نظرها يتساوى مع الطبيعة، ولأنها لا تجد فيه غير حلقات مملة متكررة من آلام وكوارث، وميلاد ونمو وموت، وصراع من أجل الوجود، وغرور وانتقام واندثار. •••

هذه الأفكار كلها تتردد في العصر الحديث. فكتابات شوبنهور عن التاريخ لا تختلف كثيرا عن هذه المعاني، وفهمه له لا يكاد يفترق عن فهم أفلاطون. إنه يشبهه في ضعف إحساسه بالتاريخ، وقلة اهتمامه به، وعدم إيمانه بقيمته أو جدواه. ما من جديد عنده، فنفس الشيء يتكرر على الدوام، والاختراعات التي اكتشفت في حياته كالسكة الحديدية والبرق لم تغير من الأمر شيئا . نفس الشيء دائما. شر كثير وخير قليل. نفس الشيء إلى الأبد ومنذ الأزل. سواء اختلف فلاحان على قطعة أرض أو تنازع ملكان على دولة. سواء تعلق الأمر بأثينا وإسبرطة، أو بروسيا وفرنسا، أو أمريكا وروسيا . من العبث أن نبحث في التاريخ عن حقيقة أو رجاء. نفس الرأي الذي قاله به شوبنهور منذ مائة وعشر سنوات، وتوكوديدس منذ ألفين وثلاثمائة وخمسين سنة. وهو أيضا نفس الرأي عند الإغريق والرومان الأقدمين، مع فروق قليلة. صحيح أن الرومان أضافوا للوعي التاريخي أبعادا جديدة في المكان والزمان. فقد امتدت حدود دولتهم من اسكتلندا إلى شواطئ الفرات، وأحسوا إحساسا واعيا بتاريخ دولتهم الطويل منذ تأسيسها - وهو مشروع جريء، لم يكن ليقدم عليه مؤرخ إغريقي، بل لم يكن ليتصوره أو يفكر فيه - وصحيح أيضا أن إشبنجلر زعم أن الرومان لم يكن لديهم إحساس بالديمومة أو البقاء، ولم يكن يعنيهم الماضي ولا المستقبل، وذلك على عكس المصريين القدماء. وقد يتفق هذا الزعم مع تصور إشبنجلر لتاريخ الحضارة بوجه عام، ولكنه لا يتفق مع الواقع في شيء. فالأهرامات قد بقيت حقا إلى يومنا الراهن، ولكن ألم تبق كذلك قبور الرومان ومعابدهم على طريق آبيا (الفيا آبيا)؟ ألم تبق الكتابات والنقوش التي حفروها عليها؟ الرومان لا ينقصهم الإحساس بالبقاء، ولكن ينقصهم شيء آخر. شيء هو عكس البقاء تماما. ينقصهم الإحساس بالتغير، بالتحول، بالصيرورة، بالجدة، أي الإحساس بالتاريخ كما نفهمه اليوم. عجز الرومان عن فهم التاريخ وعن إدراك التغير كقوة حقيقية. وعاش مؤرخوهم وسياسيوهم الكبار - مثل بوليبيوس وشيشرون وسالوست وليكيوس وتاسيتوس وبلوتارك - في عصور شهدت تغيرات حقيقية، ولكن التغير في رأيهم كان معناه التدهور والخطر والفساد. والعصر الذهبي لا وجود له إلا في الماضي. وإحياء العادات والنظم القديمة التي أسسها الآباء هو واجب المؤرخ ورجل السياسة. كانوا محافظين في تفكيرهم، وحتى لو لم يكونوا كذلك في قرارة نفوسهم، فقد كانوا يؤكدونه في خطبهم وكتابات - هكذا حاول أغسطس أن يصور أعماله بأنها بعث للماضي وإحياء للقديم - وإن خالهم الشعور مرة بأنهم يعيشون في الحاضر أو في عصر يختلف كل الاختلاف عن العصور السابقة، فهو الشعور بأن الزمان فاسد، وأن العالم متدهور. يستوي في ذلك أن نسمع الشكوى المريرة في كتابات تاسيتوس، أو نجد الشك والارتياب في أعمال سالوست. هكذا صارت الأحوال، صار الحاضر (السيكولوم)، فما أعظم الفرق بينه وبين الماضي السعيد. لم يخطر على بال الرومان أن التغير ليس دائما دليلا على التدهور والفساد، أو أنه ليس شيئا يدعو للأسف والبكاء في كل الأحوال لم يدركوا أن التغير هو جوهر التاريخ، وأنه قد يحمل في أحشائه التطور والتقدم والأمل ... تلك فكرة ظلت غريبة عن الرومان. نحن نختلف الآن عنهم في إحساسنا بالتاريخ، واستعدادنا للتغير، وقدرتنا على التكيف. وما أكثر ما تمكن السياسيون في العصر الحاضر من مواجهة التغيرات الحاسمة بالحكمة، والتخلي عن النظم القديمة أمام الواقع الجديد (تحول الإمبراطورية البريطانية إلى ما يسمى الآن بالكومونولث من أوضح الأمثلة على هذا). أما الرومان فقد عجزوا عن هذا التكيف. لذلك انهارت الجمهورية الرومانية القديمة، وسقطت الدولة الدستورية. اعتقد الجمهوريون أنهم يستطيعون أن يحكموا الدولة الواسعة المترامية الأطراف على أساس دستور دولة المدينة الصغيرة، بل إن الدكتاتورية العسكرية التي أقامها القياصرة ظلت تتدثر بالرداء الجمهوري القديم. أما الجديد (الريس نوفا

Res nova )، فقد ظل بالنسبة إليهم شيئا محرما، شيئا غير جائز ولا مشروع.

مع هذا كله فقد أخرجت روما عددا من أعظم كتاب التاريخ. وليست عظمة هؤلاء الكتاب في أنهم عرفوا ماهية التاريخ والتطور، بل في قدرتهم الرائعة على التصوير المعبر الحي، والأسلوب المؤثر الدقيق، في الرواية الموجزة الكاملة عند سالوست، وفي العرض النفسي المتشائم العميق عند تاسيتوس. انظر إلى هذه العبارات التي لا يقدر عليها إلا كاتب عظيم: «ما من أحد توصل إلى السلطة بالوسائل الشريرة، ثم استطاع أن يستخدمها في الأهداف الخيرة»، «من طبيعة القلب البشري أن يكره من ألحق به الظلم.» ما من مؤرخ حديث استطاع أن يكتب عن الطغيان بأصدق ولا أروع من تاسيتوس. ومع ذلك فكم من مؤرخ حديث تفوق عليه وهو أقل منه شأنا. والسر بسيط أن المحدثين يحسون بالتحول في الزمن، بالتغير، بالاستمرار، بالتفرد، وكلها أشياء غريبة على الرومان. •••

هذا الإحساس، هذه الفكرة، جاءت إلى العالم الغربي عن طريق المسيحية. وصلت إليها عن طريق العهد القديم، ثم تأكدت في العهد الجديد، وظلت زمنا طويلا تحتفظ بطابعها الديني. وأصبح العالم يؤرخ للزمن بظهور المسيح، وما زلنا نؤرخ له اليوم ونحن في بداية سنة 1970م. فظهور المسيح أعطى للتاريخ معنى، خلع عليه نظاما لم يكن يعرفه في العصور القديمة. صارت السنون تحسب بين ظهور المخلص للمرة الأولى وظهوره للمرة الثانية. أصبح الزمن الذي امتد قبل ظهوره هو زمن الأمل والوعد والانتظار. أما الرومان فكانت طريقتهم في حساب التاريخ أن يسموا السنين بأسماء الماجستيرات والقناصلة، وكم كانت طريقة معقدة!

فرق كبير بين التاريخ عند الرومان وبينه بعد ظهور المسيحية. صحيح أن الوعي التاريخي في ظل المسيحية كان له وجهان مختلفان. كان هناك من آمن بأن أفعال الإنسان وأحداث العالم لا أمل فيها ولا نجاة - فالقديس أوغسطين مثلا ومن بعده البابا جريجور السابع بستة قرون يحتقران الدولة والسلطة أشد الاحتقار - ولكننا لا ندري على وجه اليقين إن كانت المملكة الأخرى، مملكة الله أو مدينته، ستتحقق في رأيهما على الأرض أم في عالم آخر. وكان هناك الوجه الآخر. فالمسيحية هي التي جعلت لفكرة الزمن قيمة وشأنا، هي التي جعلت التاريخ وكتابة التاريخ أمرا ممكنا. لا تاريخ مدينة أو دولة فحسب، بل تاريخ العالم، تاريخ البشرية «على الأرض السلام وبالناس المسرة». هكذا كانت بشارة الملائكة.

Bog aan la aqoon