Maanso iyo Fikir
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Noocyada
وكان من الطبيعي أن يتعرض مندلسون (ولو من بعيد وبأسلوب فلسفي مجرد) لأعداء التنوير الذين هم في الواقع أعداء الحرية والمساواة والعدالة، وانتشار المعرفة بين الناس. ولذلك نجده يدين الأفكار المغرضة، والأحكام والتصورات المتحيزة في مجال الدين بوجه خاص، مع ما يرتبط بها من تعصب وتطرف ونفاق. نقول إن هذا كان أمرا طبيعيا؛ لأن الدعوة إلى التسامح وتأكيد وحدة الأديان في جوهرها الأصيل قد كانت من الأعمدة الأساسية التي قام عليها التفكير في عصر التنوير (وأروع من عبر عن التسامح ووحدة الأديان هو ليسينج في مسرحيته ناتان الحكيم، وفي كتابه الصغير عن تربية الجنس البشري)، ويكفي أن مندلسون قد تنبه إلى «جدل التنوير» وإمكان تدهوره وفساده وهو في قمة مجده وازدهاره، وذلك قبل «لوكاتش» في كتابه عن جوته وعصره، وقبل تيودور أدورنو وماكس هوركهيمر في كتابهما المشهور عن جدل التنوير، ويكفيه أنه أشار إلى أخطار إساءة فهم التنوير، وسوء استخدامه، وحذر منها تحذير الملهم الذي تنفذ رؤياه من أستار الحاضر لتكشف عن كوارث المستقبل. وهل بعد محنة الجهل والتعصب والتطرف التي بلغت ذروتها المدمرة في كابوس النازية، وما أعقبه من كوابيس تزحف على بلادنا العربية من كارثة؟! لنقرأ هذه السطور التي يختم بها مقاله محذرا من مغبة سوء استخدام التنوير التي لا بد أن تؤدي إلى إضعاف الحس الأخلاقي، وخلق التصلب والأنانية والكفر والفوضى: «كلما زاد الشيء نبلا وكمالا، زادت بشاعة فساده وتحلله. فالخشب الذي يفسد ليس في بشاعة الوردة التي تفسد، وهذه لا تثير الاشمئزاز بقدر ما تثيره جثة حيوان متعفن، كما أن هذه بدورها ليست بأبشع من جثة إنسان تعرضت للفساد. والأمر كذلك مع الحضارة والتنوير. فكلما ازدادا نبلا في حالة ازدهارهما، زادت بشاعة تحللهما وفسادهما. إن إساءة استخدام التنوير يضعف الشعور الأخلاقي، ويؤدي إلى التصلب والأنانية والكفر والفوضى. وإساءة استخدام الحضارة يفضي إلى الترف والنفاق والطراوة والخرافة والعبودية. وكلما تقدم التنوير جنبا إلى جنب مع الحضارة، كانا أفضل وسيلة لوقف الفساد، والثقافة التي تسود في أمة من الأمم نتيجة امتزاج التنوير بالحضارة تجعل هذه الأمة أقل عرضة للفساد.» •••
إذا كان «مندلسون» قد استقرأ في مقاله معنى التنوير وأبعاده، والأخطار التي يمكن أن يتعرض لها، فإن كانط يتبع في مقاله منهجا استنباطيا يبدأ من مسلمة أو تعريف قاطع للتنوير. إنه في رأيه هو خروج الإنسان من حالة الوصاية المفروضة عليه. وهو يخرج أو بالأحرى يخرج نفسه منها عن طريق التفكير الحر المستقل أي عن طريق النقد! يشرح كانط في السطور التالية مفهوم التنوير، ويختمها بترديد الشعار الذي رفعه العصر كله في عبارة «هوراس»: «تشجع على المعرفة!» وهو شعار يمكن أن يكون بداية وخاتمة، بل لعله أن يكون «أمرا مطلقا» يتوجه به فيلسوف الواجب إلى ضمير القارئ. ويواصل شرح التعريف الذي وضعه في البداية مع تكرار صورة الوصي والقاصر التي يبدو من حديثه أنها صورة موفقة في التعبير عن عصر التنوير بقدر ما هي محببة إلى قلب «حكيم كونجزبرج»، الذي كانت فلسفته النقدية دعوة للتفكير والوجود الحر المستقل، بعيدا عن الفرض والوصاية التي عاناها في طفولته وشبابه وعانتها معه طبقات الأرقاء من الفلاحين والعمال وصغار الموظفين المضطهدين في ظل الإقطاع والاستبداد البروسي الصارم.
وينتقل كانط بعد ذلك من تنوير الفرد إلى تنوير الرأي العام، فيشترط وجود الحرية في الحالين. وعندما تتوفر هذه الحرية يصبح التنوير أمرا لا مفر منه، ولا غنى عنه، ولكن من ذا الذي سيقوم بالتنوير؟ من سيؤدي دوره في توجيه «الجمهور»؟ إنهم القلة أو الصفوة كما نقول اليوم، هم علماء الشعب وكتابه الذين يتجهون إليه، ويفتحون عيونه على العيوب والأخطاء والأحكام المغرضة التي تفسد عليه شئون حياته السياسية والاجتماعية والدينية والعلمية ... إلخ.
ويتطرق كانط إلى موضوع الثورة - التي نادى بها، وعمل لها الكثيرون في أيامه متأثرين بالثورة الفرنسية - فيرفضها من حيث المبدأ. فالثورة في رأيه تعجز عن إحداث «الإصلاح الحقيقي في أسلوب التفكير». ولهذا يستدل بهذا الإصلاح، أي تربية العقل الإنساني تربية تحفزه على التفكير النقدي الحر بنفسه ولنفسه، وترتفع به إلى الإنسانية المستنيرة المسئولة. ولا يصح أن نستنتج من هذا أن رفضه للثورة هو رفض للثورة الفرنسية. فقد رحب بها، واستبشر بفجر الخلاص على يديها عندما شبت نيرانها، واعترف صراحة بوقوفه إلى جانب أفكارها الأساسية عن الحرية والإخاء والمساواة، على الرغم من الأخطار التي كان يمكن أن يتعرض لها - وهو المعلم البروسي المتواضع الحال - بإدراج اسمه في القائمة السوداء! ولقد عبر عن موقفه الثابت من الثورة الفرنسية في أحد كتبه الصغيرة التي كتبها في أواخر حياته (وهو نزاع الكليات الذي صدر سنة 1798م)، وذلك بعد سنوات من انتهاء المجزرة التي أثارت سخط كبار الإنسانيين، وجعلتهم يتحفظون في حكمهم عليها (ومن أهمهم جوته وشيلر). يقول كانط في هذا الكتاب: «إن ثورة شعب ذكي، نراها في هذه الأيام دائرة أمام أعيننا، يمكن أن يكتب لها النجاح أو الإخفاق ، ويمكن أن تمتلئ بالشقاء والفظائع، بحيث يستحيل على إنسان حسن الطوية لو قدر له أن يقوم بها مرة أخرى، وينفذها بطريقة يرجى منها الخير - يستحيل عليه أن يقرر إجراء هذه التجربة مع كل التضحيات التي كلفتها - أقول إن هذه الثورة لتصادف في وجدان جميع المتابعين لها (الذين لم ينخرطوا في لعبتها) مشاركة حارة توشك أن تبلغ درجة الحماس، كما كان التصريح بها مرتبطا بالخطر، وليس لها من سبب إلا الاستعداد الأخلاقي المغروس في طبيعة الجنس البشري.»
الحرية إذا وقبل كل شيء! فهي الأساس الذي يقوم عليه التنوير، والشرط اللازم لوجوده وانتشاره بين الناس. والمقصود بهذه الحرية عند كانط هي حرية الكلام، وحق إبداء الرأي الحر قولا وكتابة، ولكنه يؤكد أقل أنواع الحريات ضررا، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل، أو حرية ممارسته صراحة في كل ما يمس الصالح العام، ولكن من الذي يملك هذا الحق؟ يعود كانط فيحدد مفهومه للاستخدام العلني للعقل، ويقصر حرية الكلام على الحرية الأكاديمية، أو حرية العلماء في استعمال عقولهم وعرض آرائهم على قرائهم. ويبدو أن كانط يعتمد في هذه الفكرة على ما يمكن أن نسميه دهاء العقل (وهو هنا شيء مختلف عما يقصده به هيجل!) فهو يصف هذه الحرية العلنية التي يطالب بها بأن تكفلها الدولة للعلماء بأنها «أقل الحريات ضررا»، وكأنه يريد أن يطمئن السلطة، ويهدئ خاطرها، ثم لا يلبث أن يضع ثقته في العقل الذي يبدأ عمله بإقناع المتخوفين بأقل الحريات ضررا؛ لكي ينتقل بعد ذلك إلى تبصيرهم بضرورة حريات أخرى أخطر وأكثر ضررا.
ويرتبط مفهوم الاستخدام العلني العام للعقل بمفهوم آخر استحدثه كانط في لغته، وهو مفهوم الاستخدام الخاص الذي يقتصر فيه العقل على مجال الوظيفة أو المهنة أو ما نسميه اليوم ب «الدور الاجتماعي». ويمثل كانط لذلك بالضابط ودافع الضرائب ورجل الدين الذين يسمح لهم - باعتبارهم علماء فحسب - أن يوجهوا النقد الحر كما يشاءون، ويحرم عليهم هذا النقد في دوائر عملهم وواجباتهم الوظيفية التي تفرض عليهم طاعة الأوامر، حتى لا يضطرب نظام الدولة وأمنها واستقرار نظمها ومؤسساتها ... والسؤال الذي يلح على الخاطر في هذا الصدد هو هذا السؤال: هل يمكن أن ينفصل «الشخص العاقل» عن «الموظف» في إنسان واحد؟ إن أحد الفلاسفة المعاصرين يرجع هذا الفصل العجيب إلى جذوره التاريخية عند لوثر، كما يجد نظيرا له عند روسو الذي فرق بين «الإنسان» و«المواطن»، وقابل بينهما مقابلة الضد للضد (هربرت ماركوزه، السلطة والعائلة، 1936م) والأسباب التي دعت كانط - سليل الفقراء الكادحين والمعلم المسكين في ظل التنين - إلى الاقتصار على الثورة العقلية أسباب متعددة ومتشابكة. فهو إذا كان يرفض الثورة من حيث المبدأ، فإنه ينادي بالإصلاح، ويؤكد إمكانه وضرورته عن طريق النقاش العلمي العلني الذي يبصر الحاكم أو الأمير بحقائق الأمور، وبحثه على تغيير الفاسد والمعوج منها. وطبيعي أنه لن يقدم على شيء من هذا، إلا إذا كان حاكما أو أميرا مستنيرا يتوفر لديه الاستعداد «لتوحيد الإرادة الشعبية بأكملها في إرادته». وكأن الفرصة الوحيدة للإصلاح في ظل الاستبداد المطلق - الذي عاش كانط نفسه في قبضته وواجهه بثوريته الحكيمة ولم ينج في النهاية من غضبه وتهديده - تكمن في خضوع صاحب السلطة الفعلية لأصحاب السلطة الفكرية والعلمية، ولكن متى خضع أولئك لهؤلاء؟ وهل يكفي أن يكون الحاكم مستنيرا ليستجيب لنور العقل الحر؟ أم أن هذا العقل الحر يحتاج إلى إرادة شعبية تنقل أفكاره إلى قلب الواقع، وتغير به وجهه الكئيب؟! كما أن هذه الإرادة الشعبية بحاجة هي الأخرى إلى الاستنارة، حتى يفرض التنوير نفسه، وينطلق من أسفل إلى أعلى، لا من أعلى إلى أسفل، كما حدث ويحدث في معظم الأماكن والأزمان، وخصوصا في الشرق المسكين منذ آلاف السنين؟!
نكتفي بعد إلقاء هذه الأسئلة بأن نقول إن لكانط عذره أو أعذاره التي ألمحنا إليها، وأنه لم يذكر في مشروعه هذا أي ضمانات قانونية أو دستورية لنشر التنوير من أسفل إلى أعلى، اللهم إلا صدق الأمير المستنير وحسن نيته. إنه يرسم صورة الإصلاح الممكن في مجتمع أبوي كان يرفضه من صميم قلبه، ولكنه لم يجد حيلة أمام ضعف حيلته، فقرر في النهاية - وبحكم إيمانه بالنظام والواجب والعقل - أن يقف في صف الأمن والنظام والاستقرار. ويبقى السؤال آخر المطاف قائما: ألا يؤدي الوقوف مع استقرار الدولة الغاشمة إلى تقويض فكرة التنوير العام لسائر طبقات الشعب، وتدمير التنوير نفسه؟ مهما يكن من شيء، فإن لموقف كانط جذوره وأسبابه التاريخية، التي ما تزال فعالة ومؤثرة، بحيث يمكن أن نتتبع خيوطها المتصلة من كانط - بل من لوثر وروسو كما ذكرنا - إلى شروح هربرت ماركوزة عن «التسامح المكبوت»، الذي يدفع بعض أنظمة الحكم إلى السماح لأعدائها بحرية الكلام والتعبير، بشرط ألا يجاوزوهما إلى السلوك والفعل (ماركوزة، نقد التسامح الخالص، فرانكفورت، 1966م، ص97) ويبدو أيضا أن الظروف التاريخية جعلت كانط يركز في مقاله على التنوير على «أمور الدين» التي جعلها محور حديثه. وحديثه في هذا السياق جدير بأن ننتبه إليه، ونتعلم منه، خصوصا في أيامنا هذه التي يحتدم فيها النقاش حول تطبيق الشريعة، ويتدخل فيه العلماء الأجلاء جنبا إلى جنب مع الجهلاء والأدعياء. إن عدم بلوغ الرشد والقصور في الأمور المتصلة بالدين هو في رأيه أشد أنواع القصور ضررا وأكثرها إهانة للإنسان. وأهم ما يهمه في هذا الشأن هو إعلان استقلال الإنسان - إن جاز هذا التعبير - والدفاع عن طبيعته وحقيقته، وحقه المقدس في التقدم على طريق التنوير. ولقد جاءت العقبة الكبرى أمام التنوير (في القرن الثامن عشر) من بعض رجال الدين الذين أساءوا فهم الدين نفسه، وتصوروا أو صوروا للناس أن التنوير مرادف للكفر ومعاد للكنيسة، ولم تأت أبدا من جانب العلوم والآداب والفنون، ولا من جانب العلماء والأدباء والفنانين الذين لم تقيد حرياتهم، ولم يخضعوا للرقابة الصارمة إلا في القرون التالية،
1
ولا عجب أن يصف كانط عصره بأنه عصر فريدريش؛ إذ كان هذا الملك البروسي المستنير مقتنعا تمام الاقتناع بحرية كل إنسان في أن يلتمس خلاصه الروحي بالطريقة التي يراها، ولكن الأحوال لم تدم لأحد؛ إذ سرعان ما تغيرت بعد موت فريدريش الثاني هذا، واصطدم كانط نفسه بالسلطة التي حذرته سنة 1794م (على إثر صدور كتابه عن الدين في حدود العقل وحده) من التعرض لأمور العقيدة المقدسة، وبدأ الهجوم الضاري على التنوير وعصره.
يختتم كانط مقاله بالتعرض لمشكلة التنوير من الناحية السياسية والاجتماعية. والواقع أن من يقرأ الفقرات الأخيرة من المقالة، لا يستطيع أن يقرر إن كان الباعث عليها هو خوفه من الفوضى والتمرد، أو حرصه على بيان الاعتراضات والحجج التي يبديها أنصار الأمن والاستقرار وأعداؤه على السواء، فالصورة التي يلجأ إليها عن القشرة والبذرة توحي بأنه يساند المفارقة القديمة المتجددة التي تدعي أن التنوير لا ينتشر، ولا يزدهر إلا في حماية جيش منظم كبير العدد «يضمن الأمن العام»، هل يلجأ كانط مرة أخرى إلى «دهاء» العقل؟ إنه يقدم في العبارات الأخيرة من المقال نوعا من «جدل التنوير» الزاخر بالمفارقات العجيبة؛ إذ يمكن في النهاية أن تؤثر بذرة التنوير أو الميل الفطري إلى التفكير الحر على الشعب، فتزيد حريته الفكرية، وربما أثرت على المبادئ والأصول التي يرتكز عليها نظام الحكم نفسه. ويكفي كانط شرفا أنه أكد أن هذه البذرة لا بد أن تشق القشرة الصلبة المحيطة بها، ولا بد أن يستنير الشعب، ويخترق الوصاية المفروضة عليه، ويحقق حريته الحقة في النقد والتفكير بنفسه؛ لكي يتسنى له تغيير نفسه وواقعه ومجتمعه. •••
Bog aan la aqoon