Maanso iyo Fikir
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Noocyada
حقا إن الإنسان الآن لنهر قذر. ولا بد أن يكون الإنسان بحرا لكي يستوعب البحر دون أن يتلوث. انظروا، إنني أعلمكم الإنسان الأعلى، فهو هذا البحر، وفيه يمكن أن يغيب احتقاركم العظيم.
تفرس زرادشت في عيون الناس وتعجب. ثم تكلم وقال: الإنسان حبل مربوط بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى حبل معلق فوق هاوية. هو معبر خطر، خطوة خطرة على الطريق، التفاتة خطرة إلى الوراء، ارتجافة وتوقف خطر. أعظم ما في الإنسان أنه جسر لا هدف، وأحب ما فيه أنه مرتقى ومنحدر. إنني أحب أولئك الذين لا يحيون حياة المنحدرين؛ لأنهم هم العابرون المتجاوزون. أحب من كانت نفسه عميقة، حتى في جراحها، ومن يمكنه أن يذهب ضحية تجربة صغيرة، بهذا يقطع الجسر عن طيب خاطر. أحب جميع من يشبهون قطرات المطر المثقلة التي تتساقط قطرة قطرة من السحابة السوداء المعلقة فوق الإنسان. إنهم يبشرون بمقدم الصاعقة، ويسقطون وهم المبشرون.
انظروا، إني مبشر بالصاعقة، قطرة ثقيلة تنحدر من السحابة، أما هذه الصاعقة فاسمها الإنسان الأعلى.
17
نعود للسؤال: ومن هو الإنسان الأعلى؟!
لم تتعرض كلمة في تاريخ التفكير الحديث لسوء الفهم الذي تعرضت له هذه الكلمة. إنها في رسمها الأصلي تدل على «ما فوق الإنسان». والكلمات التي ترمز لفوق، ووراء، وبعد، تتكرر كثيرا في كتابات نيتشه، وبخاصة في زرادشت، وهي أكثر الكلمات دلالة على طابعه في التفكير والتفلسف. غير أنها لا تستخدم للتعبير عن التفضيل والمبالغة، ولا عن تطرف نيتشه أو جموحه المعروف. فكثيرا ما يريد بها التعبير عن تجاوز الضدين جميعا والعلو فوق كل ما عرفته البشرية من أشكال التصور والتفكير. ولهذا نسيء فهم الإنسان الأعلى أو ما فوق الإنسان إذا ذهب بنا الظن إلى إنسان أضخم حجما أو أقوى عضلا من بقية الناس؛ إذ ليست له أدنى صلة بالبطل المحارب أو الوحش النازي الأشقر الذي راح ينشر الخراب والدمار ويغرق العالم في بحار الدم. ونحن نخطئ أبلغ الخطأ إذا فهمناه في إطار المقولات العرقية، أو رددناه إلى التطورات البيولوجية والطبيعية زاعمين أنه يمثل غاية تطورها. إن الأمر مع هذا الإنسان الأعلى هو أمر تجاوز وعلو وارتفاع، تجاوز للإنسان الحاضر، وعلو فوق الأخلاق السائدة، وارتفاع على التركة الميتافيزيقية التي ورثها العالم عن أفلاطون. ليس مجرد تمهيد للأنا المريدة الخلاقة - التي طالما سمعناه يتغنى بها، ويدعوها لأن تصير ذاتها - بل للإنسانية المبدعة التي تعي ذاتها وتتبصر برسالتها، وتتطلع بكل ما في طاقتها من حب إلى «الذات الأرقى التي لا تزال خفية».
18
ولهذا كان الإنسان الأعلى أقرب ما يكون إلى «الطفل الملاعب» الذي تحدث عنه في زرادشت، وإلى الرائد الذي يكتشف المنابع الجديدة والآفاق الغريبة المجهولة، وأشكال الفجر التي لم يقدر لنورها أن يشرق بعد كل هذه الصور والاستعارات عن العالم الجديد والفجر الجديد والشرق الجديد ... إلخ، الذي بحث الفيلسوف عنه، وتعذب من أجله، وتحمل أزمات عصره ومحن تاريخه لكي يبشر به ... أليست كلها إشارات إلى المكتشف والرائد الذي راح يعلن عن مقدمه وهو واقف كالحارس العنيد على البوابة الفاصلة بين عهد قديم وعهد جديد؟ ومن يكون هذا الرائد الذي اكتشف منابعه الفردية والجماعية إن لم يكن هو الإنسان المبدع الذي ينتشل نفسه وإخوته من مستنقع الفساد والانقراض والعدمية الذي أوشكت البشرية الحاضرة أن تغرق فيه؟ وهل من أمل في إنقاذ هذه البشرية المنحدرة إلى الهاوية إلا أمل الإبداع على يد جيل مبدع؟ - إبداع الذات الفردية والجمعية، إبداع لقيم جديدة بعد أن فقدت كل القيم قيمتها، إبداع الحياة - بفضل إرادة القوة أي إرادة المزيد من الحياة، ومن كل ما يبارك الحياة، إبداعها في كل لحظة تتحول على يديه من لحظة عابرة إلى خلود؟ من سيكون هذا الإنسان المبدع إن لم يكن هو الإنسان الأعلى؟ ومن يكون الإنسان الأعلى إن لم يكن هو الإنسان المبدع؟
عرف نيتشه قدره وأخلص له. وقد وضعه قدره التاريخي على حافة عصر عدمي منهار، فراح - بكل ما فيه من ألم وتمزق وحماس - يتغنى بالعصر القادم والإنسان الأعلى. ولم يكن هذا الإنسان في رأيي - على الرغم من كل ما أحاط به من غموض وظلم وسوء فهم - إلا الإنسان المبدع. فهل آن لنا أن نعي هذا الدرس؟ هل آن لنا - ونحن نجتر محنتنا العربية، ونهدم بيت حضارتنا بمعاولنا، وننتحر على كل المستويات بأيدينا، ونغرق كل يوم في مستنقع التفاهة والسأم والصغار والتسلط بعضنا على بعض - هل آن لنا أن نؤمن بإنسان عربي حق - ولا أقول إنسان أعلى - إنسان مبدع، يعلو فوق الإنسان القرد، وفوق الإنسان الكلب، وفوق الإنسان الأفعى - يدرك ألا أمل ولا إنقاذ سوى الإبداع - إنسان يبدع ماضيه وحاضره وغده، يبدع واقعه وقيمه، إنسان يدعو ذات الفرد وذات الأمة وهو يقول : رفقا يا نفس بنفسك! يا نفسي كوني نفسك!
ليوناردو ... والفلاسفة1
Bog aan la aqoon