Maanso iyo Fikir
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Noocyada
علينا إذن أن نتحرر من هذه العبودية. فالناس ينقسمون اليوم كما انقسموا في كل الأزمنة إلى عبيد وأحرار. «ومن لم يملك ثلثي يومه ليفرغ إلى نفسه فهو عبد، وليكن من رجال الحكم أو التجارة أو الإدارة أو العلم أو ما شاء أن يكون.» إن نشاطه الدائب وفعله المستمر لا يعفيانه كما قلنا من أن يوصف بالكسل، وكسله يرين على أعماق نفسه، ويمنعه من أن يغترف الماء من نبعه الخاص. لقد أصبح الناس - حتى العلماء منهم - يتنافسون في العمل، ويتسابقون على تحقيق الرقم القياسي فيه، ويتصورون أنه يحقق لهم المتعة التي يحققها لغيرهم. والواقع أنهم ينسون متعة أخرى أجدر بهم، متعة لا ينالها إلا القادرون على «التفرغ» أو «الفراغ» بالمعنى الذي فهمه منهما حكماء الإغريق، من ترك النفس للتأمل والنظر في نفسها وفي كل شيء. وإذا صح ما يقال من أن الفراغ مفسدة، وبداية كل الرذائل، فالأصح من ذلك أنه أقرب ما يكون إلى كل الفضائل. والإنسان المتفرغ أفضل دائما من صاحبه النشط الفعال (ولا ينسى الكسالى أنهم مستثنون من حديثنا عن الفراغ بالمعنى الذي ذكرناه!) ولا يتصور أصحاب التأمل والنظر أن الفراغ أو التفرغ معناه انتظار الإلهام المفاجئ، وكأن الأفكار المبدعة في الفن والأدب والفلسفة معجزات أو نعم تهبط من السماء. إن مخيلة الفنان أو المفكر تنتج باستمرار ويتراوح إنتاجها بين الجيد والمتوسط والرديء، ولكن ملكة الحكم المدربة لديه إلى أقصى درجة هي التي تختار وتحذف وتؤلف وتربط. لقد كان كبار المبدعين دائما من كبار العاملين المجتهدين، ولم يقتصر عملهم وجهدهم المستمر على الابتكار، بل امتد كذلك إلى الحذف والمراجعة والتشكيل والتنظيم والجمع والاختيار.
يلهث الفعالون والعمليون كل لحظة وراء ما يسمونه «التحقيق» أو «النفع» و«الإنجاز» و«النجاح»، ولكنهم في لهاثهم المسعور يضيعون اللحظة والزمن والحياة.
فالحياة تتألف من لحظات نادرة فريدة ممتلئة بالمعنى والدلالة، وبجانبها فترات استراحة تراودنا فيها على أحسن الأحوال ظلال تلك اللحظات النادرة.
فالحب والربيع، واللحن الجميل، والجبل، والقمر، والبحر - كلها تتحدث إلى القلب مرة واحدة لا تتكرر - هذا إذا تحدثت إليه أصلا! وأكثر الناس لم يجربوا تلك اللحظات. ولهذا يعيشون ويموتون كأنهم فترات استراحة وسكون في سيمفونية الحياة الحقة. وإذا كانوا لم يعرفوا تلك اللحظات التي تفيض في حديثها من القلب إلى القلب، فأولى بهم ألا يعرفوا تلك اللحظة التي يتواصلون فيها مع «الذات الأعلى» - وهي في الوقت عينه الذات الحقة الحميمة - اللحظة التي يطرح فيها الإنسان عبوديته، ويصبح هو الإنسان نفسه. إن أصحاب الطبائع الفعالة الناجحة لا يسيرون على الشعار القديم «اعرف نفسك بنفسك»، بل يبدو أنهم يطيعون هذا الأمر الذي يلح عليهم: «رد نفسا، تصبح نفسا»، ويبدو كذلك أن القدر قد ترك لهم حرية الاختيار، على حين أن المتأملين من أصحاب الطبائع غير الفعالة قد اختاروا ذلك الشعار القديم منذ اللحظة التي ولدوا فيها.
ماذا بقي لمن يحيا للمعرفة وحدها؟ ماذا يصنع أصحاب العقل الحر والوجدان الحر؟
إن أوضاعهم في المجتمع والدولة ليست هدفهم من الحياة، وإنما هي الهدف الخارجي لها، ولهذا يقنعون بعمل متواضع أو ثروة قليلة تكفيهم مئونة العيش. وهم لا يتقلبون بتقلب النظم السياسية، ولا يتحولون مع تحولات القيم والمواقف من الخيرات المادية. إنهم يدخرون طاقتهم ونفسهم الطويل للغوص في عنصر المعرفة، ورؤية الأساس والقرار رأي العين. وهم بطبيعة الحال قادرون على الحب، لكن حبهم حذر قصير الأنفاس؛ لأنهم لا يريدون أن يتركوا أنفسهم لعالم الميول والدوافع العمياء. سيفعلون ذلك وهم واثقون أن رب العدالة ينصف أولياءه من الأصوات التي تتهمهم بالعجز عن الحب أو الافتقار إليه. وهم في حياتهم وتفكيرهم يتسمون بنوع من البطولة المهذبة التي تأبى عليهم التهالك على إعجاب الجماهير على نحو ما يفعل إخوتهم من أصحاب الغرور والفجاجة، ولهذا كان دأبهم السعي في هذا العالم والخروج منه في صمت وسكون. ومهما تكون المتاهات التي يجوسون فيها، والصخور التي يحفرون في ثناياها مجرى لأنهارهم، فإنهم لا يكادون يظهرون للنور، حتى يواصلوا طريقهم في صفاء وخفة، وبلا ضجيج، ويتركوا ضوء الشمس يداعب أعماقهم الدفينة.
هكذا يتقدمون في ثقة وكبرياء على طريق الحكمة. إن الواحد منهم ليقول لنفسه: أيا ما كانت، فاجعل من ذاتك نبع تجربتك! أنفض عنك السخط، ولا تقس على نفسك، في كل الأحوال أمامك سلم من مائة درجة، في إمكانك أن ترقاه لتبلغ المعرفة. إن العصر الذي تتهمه بأنه ألقى بك بين أناس لا تطاق ولا تحتمل، هذا العصر يباركك من أجل هذا الحظ نفسه. إنه يناديك قائلا: لقد كتب لك أن تمر بألوان من التجربة، ربما لا تتاح للناس في عصور تالية. لا تقلل كذلك من شأن تجاربك الدينية، واعلم أنها قد هيأت لك مدخلا أصيلا إلى الفن. أليس في استطاعتك، بمساعدة هذه التجارب نفسها، أن تتابع المسافات الشاسعة التي قطعتها البشرية في عهود سالفة بمزيد من الفهم والتعاطف! ألم تنم على هذه الأرض نفسها، هذه الأرض التي استشرى فيها الزيف، فأثارت سخطك، كثير من الثمرات البديعة التي أنضجتها حضارة سابقة؟
حاول أن تجوب الدروب التي قطعتها البشرية في مسيرتها الرائعة المعذبة عبر صحراء الماضي، وستجد أنك قد عرفت معركة أكيدة أن البشرية لا يمكنها، أو لا يجوز لها أن تعاود السير على تلك الدروب. وكلما حاولت بكل طاقتك أن تطلع على عقدة المستقبل، صارت حياتك أداة وسيلة للمعرفة. ففي يدك أن تجعل من كل ما جربته من محاولات وأخطاء، وخيبة أمل وانفعال، وحب وأمل، في يدك أن تجعله جزءا لا يتجزأ من هدفك. وهذا الهدف النهائي هو أن تكون أنت نفسك حلقة ضرورية في سلسلة الحضارة، وأن تستدل من هذه الضرورة على الضرورة التي تحكم مسيرة الحضارة الشاملة. وعندما يشتد بصرك ويقوى على النظر في قرار النبع المظلم لكيانك ومعارفك، فربما تنعكس على مرآته نجوم الحضارات التي ستزدهر في المستقبل. هل تعتقد أن مثل هذه الحياة التي تتجه إلى مثل هذا الهدف حياة مضنية جرداء؟ إن خطر على بالك هذا، فلم تتعلم بعد أن عسل المعرفة أعذب من كل ما عداه، وأن سحب العلم الملبدة هي الضروع التي تستطيع أن تمد إليها يديك لتحلب منها اللبن الشهي. فإذا جاءت الشيخوخة لاحظت أنك قد استجبت لنداء الطبيعة التي تسيطر على العالم كله عن طريق اللذة، وستجد أن الحياة التي يمتد طرفها في الشيخوخة هي نفس الحياة التي يمتد طرفها كذلك في الحكمة، في ذلك النور الرقيق الذي يسطع من النشوة الروحية الدائمة. وسوف تلتقي بالشيخوخة والحكمة معا على منحدر واحد من حبل الحياة. فهكذا شاءت لك الطبيعة. عندئذ يكون الحين قد حان ولا وقت للغضب من اقتراب ضباب الموت. فلتكن آخر حركة تقوم بها هي الاتجاه إلى النور، وليكن آخر صوت تلفظه شهقة فرح بالمعرفة.
ج
وتنضج الثمرة ويبزغ «الفجر» (وقد ألفه نيتشه بين سنتي 1880 و1881م). وتصبح معرفة الذات هي غاية سعي الإنسان وهدف «العالم كله»: «فالإنسان لا يتوصل إلى معرفة ذاته إلا بعد أن ينتهي من معرفة الأشياء؛ إذ لا تخرج الأشياء عن أن تكون هي حدود الإنسان.» ويظهر الألم في ضوء جديد، ويكتسب العذاب والمرض قيمة جديدة. فلقد نشأت أفظع الأمراض التي عاناها الإنسان من محاولته الدائبة للتغلب على المرض. ويمر الزمن، فتصبح وسائل علاج المرض وتسكينه أسوأ أثرا من المرض نفسه. وتصبح أقصر الطرق التي ينصح بها «أطباء الروح» (كالمخدرات التي تسبب المرض بالتعود عليها كما تسببه بالحرمان منها) أقصر طريق إلى أن تترك الإنسانية طريقها ثم تفقده. ولهذا يحتم الواجب على الأطباء الجدد أن يعرفوا أن المرض طريق، وأن الحياة بطبعها طريق يجتازه الفرد مهتديا بنوره الباطن. وعليه إذا أراد أن يحقق سعادته أن يزيح «التعليمات» و«التوجيهات» عن طريقه؛ لأن سعادته الفردية لا تنبع إلا من ذاته، ولا تخضع إلا لقوانينه الخاصة التي يجهلها كل من عداه. هذه التعليمات والتوجيهات التي تفرض عليه من الخارج، وتوصف في العادة بأنها «أخلاقية» هي في الواقع موجهة ضده، ولا تحقق سعادته ولا سعادة الإنسانية. والعذاب الذي لا بد أن يقاسيه لكي يصير ذاته ويعرفها هو الذي يحرر نظرته إلى الأشياء المحيطة بها، ويمحو «ألوان السحر الكاذبة الصغيرة» التي تسبح فيها. وهو الذي يخلصه من الواجبات والعادات التي اكتسبت رداء الأخلاقية والأخلاق، وينبهه إلى ضرورة الشروع في قلب جميع القيم التي أسفرت عن وجهها، فبدت مجرد أشكال من التحيز.
Bog aan la aqoon