181

Maanso iyo Fikir

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Noocyada

أراد «زينون» الإيلي أن يؤيد فلسفة أستاذه بارمنيدس بكل وسيلة، فراح يثبت بمفارقاته العجيبة أن الزمن يتألف من آنات. وعبثا حاول «ديوجينس الكلبي» أن يفند مهزلته الحزينة عندما نهض واقفا من بين المستمعين الذين التفوا حوله، وأخذ يذهب ويجيء على مشهد من الجميع، لعل صاحبنا يقتنع بأن الحركة موجودة، وأن الزمان تبعا لذلك موجود! وبدت المفارقة - حتى عهد قريب عندما فك عقدتها برجسون والرياضيون المحدثون - كالصخرة العنيدة التي يتحطم عليها كل سفين. وبدا كأن الناس لا تجرب حياتها إلا في آنات تعقبها آنات، وكأن صاحبنا القديم قد جمع أبعاد الزمن كلها في هذه «الآن». لكن الواقع يشهد بأن الإنسان يقضي حياته في الماضي أو في المستقبل، وأن تجربة «الآن» من التجارب النادرة في حياته. فإذا أراد أن يجرب الحضور الحق في اللحظة فلا بد أن تنبهه الأشياء وتوقظه بقوة، ولا بد أن يملك القدرة على رؤية الأعماق الكامنة وراء السطح، والكشف عن الأقنعة التي خلقتها العادة. هنالك يكشف الواقع عن وجهه الملكي أو وجهه الإلهي. ولهذا لن يدهشنا أن نجد المتصوفة من أصحاب الرؤية في الشرق والغرب على مر العصور هم أول من يحدثنا عن تجربة «الحضور الكامل»، وعن اللحظة الخالدة، أو تجربة «الآن» الخارج عن الزمان.

الطبيعة كتاب مفتوح لكل من له عين. وكلما ازدادت العين حدة والنظرة نفاذا تفتحت لنا الطبيعة، وأعطتنا كل كنوزها. غير أن الإدراك الحسي لا يكفي، وأعضاء الحس لا تمكننا من إدراك اللب والجوهر، ولا غنى لنا عن رؤية الروح كي نتأمل ونشاهد ما لا نراه بعين الجسم.

ولا بد أن يرتفع وجودنا نحن كي نلمس حقيقته، وكلما ازداد حظنا من العظمة، كشف لنا العالم عن عظمته. فاللحظة التي تنكشف فيها روعة الواقع هي نفس اللحظة التي ترفع وجودنا إلى السمت، هنالك نتطلع برعشة السعادة المجهولة إلى المجهول الرائع وجها لوجه. قد يكون شكلا من أشكال الطبيعة، حادثا عاديا مما يجري في حياة العالم أو حياة الناس، فسيعلن اللامحدود عن نفسه في كل مرة، سندرك الكل بنظرة واحدة، سيتجلى الإله في كل ما هو أرضي، سيطل علينا في اللحظة السرمدية، اللحظة التي يتوقف عندها الزمن، أو التي أوقفت الزمن حتى يتم اللقاء بأنفسنا والآخر.

عندها نجرب الحضور الكامل، الحضور السرمدي. عندما لا يعود «الحاضر» شكلا من أشكال الزمان، ولا بعدا من أبعاده، بل الخلود اللازمني الذي أتيح لنا أن نقبس لمحات من برقه ونلمس ومضات من ناره.

إن كل ما قلناه عن الماضي والمستقبل، وما نقوله الآن عن الحاضر تؤكده تجربة «جوته» في شيخوخته بعد أن بلغ الثمانين من عمره وكتب إحدى قصائده الفلسفية المتأخرة بعنوان «وصية» (1829م): «النعمة بين يديك، فمتع نفسك بالقسطاس،

وليكن العقل رفيقا لا يتخلى عنك،

حيث تسر حياة بحياة.

عندئذ يبقى الماضي ويدوم

والمستقبل يصبح حيا قبل أوانه

واللحظة تصبح بيت الأبدية.»

Bog aan la aqoon