2
في ذلك الوقت انتقلت جميلة هانم من حجرتها إلى الفراندا الخلفية لمقابلة يحيى. جاءت جادة، حتى الابتسامة المغتصبة لم تحاول أن ترسمها فوق شفتيها الممتلئتين. واعتبرها يحيى زيارة غير عادية؛ إذ إن أمه تجد ما يشغلها من شئون القصر طيلة النهار. جلست على كرسي إلى جانبه في الفراندا المشرفة على حديقة الأزهار وحمام السباحة. وكانت الشمس تفترش الأرض الخضراء المترامية بين الأسوار العالية، ولا نأمة تجيء من شارع رأس الحكمة المزين على ضفتيه بالنخلات العشرين. وكان يحيى يستجم قليلا من المذاكرة، مستسلما لدفقات من نسيم الربيع تتلاقى في وجدانه بأنغام موسيقى خفيفة تنبعث من ترانزستر. فأسكت الجهاز مرحبا بمقدم بأمه. بدا في البيجاما رشيقا طويلا، جامعا في صفحة وجهه بين عيني أمه الجميلتين وبناء شعبي لأطراف وجهه الغليظ. ورغم رونق الأم الذي يعد فوق ما تتمنى امرأة في الخمسين فقد تجلت بها سمات شعبية في دسامة يديها وخشونة نبرتها. وإعرابا عن حبه تناول يدها ولثمها وهو يلحظها باهتمام. قالت جميلة هانم: لم يعد بينك وبين الامتحان النهائي إلا ثلاثة أشهر كان يجب أن تمر في هدوء شامل لتتفرغ لعملك، ولكن الظروف تحتم علي أن أحيطك بما يقع حولنا.
فرنا إليها بعينيه العسليتين باهتمام متزايد وهو يتمتم: ليكن خيرا إن شاء الله.
فقالت بأسف واضح: إنه أبعد ما يكون عن ذلك!
طالما شعر بأن القصر يمضي بلا تاريخ، فماذا حدث؟ أما الأم فقالت: لا أريد أن تباغتك الحوادث، تقرر أن يغادر محروس ابن البك القصر هو وأسرته!
تردد الكلام في مسمعيه أول الأمر بلا معنى. وسرعان ما لاح الانزعاج في عينيه. وتبين له أن منظر أمه ينذر بشر غير محدود. تمتم واجما: إنه لغز ولكن له تفسير ولا شك. - كأنه نوة من نوات البحر، إني آسفة! - ما معنى تقرر؟ من صاحب القرار؟ - صاحبه واحد، من غيره؟ تقرر طرد محروس وأسرته.
تجهم وجه يحيى. تذكر النفور الدائم بين أمه وحرم محروس، هل لعب النفور دورا في تخطيط هذه النهاية الأليمة غير المتوقعة؟ وقال بحذر: محروس بك هو الابن الوحيد لجندي بك فكيف هان عليه أن يطرده هو وأسرته من قصره؟
أجابت جميلة هانم بحزن شديد: ثمة جريمة شنعاء! - جريمة؟!
قالت وصوتها يتهدج: تصور يا يحيى، لقد دبر الابن جريمة خفية لقتل أبيه!
تصلب عود يحيى من الانزعاج والذهول، تفكر في معنى ما يلقى إلى سمعه، تأمله مليا برعب، ثم تجلت لمخيلته صورة وداد الجميلة المستقرة في أعماق قلبه. ما أكذب الربيع الساطع. إنه يسخر من أحلامه العذبة ويعصف بطمأنينته الراسخة. وتمتمت المرأة وكأنما تقرأ أفكاره الدفينة: الأمر محزن جدا، وهناك حزن آخر من أجلك أنت.
Bog aan la aqoon