وكان كلما أتم ابن من أبنائي تعليمه أشركته في العمل، ولكني استأثرت بعقد الصفقات الكبيرة، والقيام بالرحلات التجارية الهامة، وكان أبنائي مثلا طيبة للبر والحذق، وقدوة تجارية في المثابرة وتقديس العمل والمال.
وبتقدم الأيام والعمر أرخيت قبضتي رويدا عن بعض التبعات، وحملتها الأبناء المجدين. لماذا فعلت ذلك رغم هيامي بالعمل والنشاط؟ ربما لأني أردت ألا يفاجأ الأبناء يوما بمسئوليات لم يتدربوا على ممارستها، وربما لأنني طرقت أبواب الشيخوخة ولم تعد الطاقة تسعف كما أسعفت في الماضي، وربما لتسرب قطرات من الضجر إلى زوايا نفسي. وظفرت بشيء من الفراغ سمح لي بالانطلاق بالسيارة ساعتين كل يوم في الخلوات أو الطريق الصحراوي منفردا بنفسي أو بصحبة زوجتي. وفي تلك الأوقات المريحة عاودني شعوري القديم بالعدو الرابض فطاردني التوجس من جديد.
وذهبت إلى خالد جلال. بات شيخا مجلل الشعر بالشيب يواري عينيه وراء نظارة طبية كحلية اللون. وذكرته بنفسي للمرة الثانية في حياتي، فرفع حاجبيه وهو يبتسم، فبادرته دفعا لأي شماتة: المسألة من قبيل الاحتياط.
فقال بهدوء: الوقاية خير من العلاج. - لعله توجد الآن عقاقير للوقاية بدلا من الجلسات الطويلة. - لا بد من الجلسات، لا بد من الصبر.
فقلت ضاحكا: لم يعد في العمر بقية كافية! - اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ... - ولكن عملي لا يسمح لي بأن أهرش ظهري! - آسف، إني على استعداد لأعطيك ما عندي.
فشكرته وقلت وأنا أقوم للانصراف: سأفكر في الأمر.
رجعت وأنا أفكر، لا صبر لي على الجلسات ولا وقت. وقد يسيء ترددي على عيادته إلى سمعتي وأنا رجل سمعته في السوق تساوي مليونا من الجنيهات. وسرعان ما قررت حذف الموضوع من رأسي. ولما اشتد بي الضجر خطرت لي فكرة غاية في الإبداع. قلت لزوجتي: لقد انقضى العمر بين ثلاثة أماكن محددة تفوح منها رائحة الصوف، وقد أتممت رسالتي، وأكرمني الله بأبناء هم زينة السوق، فما رأيك في أن تتأبطي ذراعي ونمضي لرحلة طويلة حول العالم؟
أخذت زوجتي التي أمضت عمرها بين السراي وبيوت الجيران، القانعة السعيدة بكل ما حولها، وقالت بخوف: حول العالم؟
فقلت بحماس: أجل، أوروبا ... أمريكا ... الجبال ... البحيرات ... الناس ...
فقالت بفتور: أريد أن أحقق حلمي الصيف القادم بالحج إلى بيت الله. - ليكن ذلك في العام المقبل!
Bog aan la aqoon