ولكن لا دوام لحال. الشروق والغروب، تلاحم المعاملات وتبادل التحيات، والتنفس والخفقان، أحلام اليقظة وأحلام المنام، كل أولئك من شأنه أن يلطف التوتر، ويستأنس الشوارد، ويحل عادة في محل عادة، يوهم بأن الأمور ستمضي غدا كما مضيت أمس. ثم أليس لكل أجل كتاب؟ وأن تستسلم للمقادر أخف من أن تشقى دوما بعذاب الخوف، وأن تعيش يومك خير من أن تعاني هولا لم يجئ بعد؟ لذلك مضى يختلف إلى المقهى ويجالس الجيران ويلاطف السكان. من يخطر له أن ينعطف إلى هذه الحارة المنزوية؟ من ينقب في صحراء عن حبة رمل مضرجة بالدماء؟ ويفكر جادا في المشاركة في المقهى، أن يحظى بنعمة الحب والزواج والإنجاب. أن يمارس الحياة بما يليق بالحياة، وأن يطالبهما بما هو حق للإنسان.
وتتم المشاركة، وتقوى أسس المعيشة، ثم يتقدم إلى الشيخ الحلبي طالبا يد كريمته. - من هو سالم عبد التواب؟ من هو عبد التواب؟! - لا غبار عليه كرجل عرفناه أعواما. - إنه مقطوع من شجرة! - أي مخلوق يتسلسل في النهاية إلى آدم وحواء. - ألا تخشى أن يظهر لأحفادك ذات يوم أعمام من الليمان؟ - في كل سلالة مجرمون وما يهمني إلا الرجل نفسه! •••
اقترن سالم عبد التواب من عظيمة كريمة الشيخ الحلبي، وراح ينجب البنين والبنات. استقر قلبه في أمان شامل أو شبه أمان، فهو يمارس الحياة ، والأعمار بيد الله وحده.
أجل تناوشه أحيانا أفكار معتمة، يخاف ما تفرضه حياته الزوجية من اتساع، سيلزم مرات بمغادرة الحارة، سيمضي إلى السوق أو المدرسة، ولكن ألا يجيء الموت مع السلامة كما يجيء مع الخطر؟! •••
وتلقى ذات يوم رسالة. «جاء الأجل!»
غفل من الإمضاء وليس بها إلا هذه الجملة. واردة من حي السيدة كما يقر بذلك خاتم البريد. اقشعر بدنه برعدة خوف شاملة. وتفجر الرعب من مكامنه. جاء الأجل، هل عرف في النهاية مخبؤه بين البيت والمقهى والأولاد؟ ولكن مهلا، لم أراد المجهول أن ينذره؟ لم لم ينقض عليه وهو غافل في نعمة العسل؟ لماذا يعرض انتقامه للفشل؟ لماذا يعرض نفسه وهدفه إلى يقظة قاتلة؟ لماذا يهبه فرصة للنجاة؟ أم يريد وقد تمكن منه أن يعذبه؟
جاء الأجل.
ما العمل؟ ما الطريق؟ هل يفشي السر القديم إلى أهله فينفخ فيهم حياة جديدة مليئة بالفوضى والشغب؟ هل يلجأ إلى الشرطة وإن جره ذلك إلى الاعتراف بجريمة أكبر؟ أم يكتفي بالحذر وبالمسدس الذي لا يفارقه؟ وأيا ما كان الأمر فقد تعكر صفو الحياة، واربد ماء البحيرة الرائق بقنبلة أعماق متفجرة.
رجع الخوف كما كان في البدء. إنه لا يغادر البيت إلا لضرورة ملحة. يتفحص الوجوه بريبة دائما، يراقب الرائح والغادي، يتحسس بكوعه مسدسه، يختلس نظرات الحنان والأسى من زوجته وأبنائه. •••
مرة قال له شريكه في المقهى وهو يشير بذقنه إلى رجل جالس غير بعيد: كلفني أن أسألك إن كان عندك شقة خالية.
Bog aan la aqoon