Shaytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Noocyada
قال: فلما احتوتني المدينة رأيت الزمر آخذين طريقا يتدفقون فيه، فقلت في نفسي: لعل الزحام من أجل بنتاءور وقضيته، وطفقت أطير إلى حيث يسيرون، حتى تجمعت الجموع، أرى لديها هالة، وعليها من العدل رونق وجلالة، فقلت في نفسي: دار القضاء لا محالة، ومرقت من فوري فصرت فيها، أجول مع الجائلين في نواحيها، وهناك علمت أن هذا البناء الرفيع، مقر حاكم القسم، وأنه يجلس فيه للقضاء بين الناس؛ فقد رأيت كثيرا من دور الحكومة في الأقاليم، وهي التي يجلس فيها عمد البلاد وأعيانها وحكام القرى للفصل في المنازعات، فلم أر ما يحاكي رفعة هذه الدار.
فأجابه أحدهم: إن قسم الصناعة أكبر أقسام المدينة يا مولاي، فلا غرو أن تكون دار الحكومة فيه بهذا العظم، لكن أيأذن لي مولاي إن سألته: ألم يأن لحكومة جلالة الملك أن تجعل القضاء عملا مستقلا، ونظاما قائما بذاته، فلا يقضي بين الناس شيخ القرية، ولا حاكم القسم، ولا قائد العسكر؟
قال: وأي بأس بهؤلاء إذا انتدبوا للقضاء، وهم أشد الناس امتزاجا بالأهالي، وأعرفهم بطباعهم وأحوالهم، وجلهم على معرفة واستقامة أخلاق، بل إن الأهالي كثيرا ما يفزعون بمنازعاتهم إلى أفراد منهم اشتهروا بالعلم والخبرة ليفصلوا فيها، وهم يرتاحون لقضائهم، ويقبلون أحكامهم، ويمتثلون الصارم منها كالجلد، وربما كانت هذه الأحكام أدنى إلى العدل وأقرب للصواب مما يصدره قضاة تقيمهم الحكومة ولا تنتقيهم، ولقد رأيت الحكام في القرى إذا تصدروا للقضاء جلس بجانبهم نفر من الكتاب والأعيان ليمدوهم بالرأي ويردوهم إلى الصواب فيه.
قال الهدهد: فاستغربت هذه الأقوال، وعجبت للدهر كيف تشابه وجهه وآخره؛ فهذا قضاء العمد كان من ضمن نظامات المصريين القدماء، وهو اليوم الشغل الشاغل والمسألة الكبرى في مصر؛ وهؤلاء المحلفون كانوا يؤازرون القضاة على عهد الفراعنة، وهم اليوم من ضرورات القضاء في باريز مركز الحضارة الحاضرة.
ثم التفت النسر حوله وقال لأصحابه: ما أجل هذا الموقف!
وهناك بصرت بالنسر في ناحية يحيط به جماعة من أصدقائه وتلاميذه، فاقتربت منه، فهبطت مستقري من كتفه، فالتفت إلي مبتسما فقال: جعل هذا الموقف للفضيلة ينصرها فيه دعاتها، كما جعل للجرائم يفتضح فيه جناتها، والمتمثلان فيه اثنان: جان تعلن براءته، وهذا يبكي عليه من في الأرض، وبريء تعلن جنايته، وهذا يبكي عليه من في السماء، ومن لي أن أكون الثاني!
فقال له أحدهم: قضاة منفيس يا مولاي قضاة عدل ودراية، فلا خوف على رفيع شرفك منهم.
قال: لا يضطرب إلا القاضي العادل، ولا يخطئ إلا القاضي العليم؛ ولو أن لبنتاءور أن يحاكم نفسه بنفسه، لحار في شأنه مع الحمار فلم يدر أيقضي لنفسه أم عليها.
قال أحدهم: هبهم يا مولاي حكموا لصاحب الحانة بشيء من المال يأخذه منك عوضا لما لحق به من الخسارة المزعومة، فما يكون شأن هذا الحكم؟
قال: أكون قد أعطيت الفضيلة شيئا من مالي لا أستكثره عليها ولا أتبعه المن.
Bog aan la aqoon