فلم يستطع أبو بكر - رحمه الله - إلا أن يوصي عمر بالجد في نجدة المثنى وأصحابه وإمداده بالرجال والسلاح، وقد جد عمر في ذلك منذ اليوم الأول لخلافته، فندب الناس إلى العراق، ولكن الناس سمعوا منه ولم يستجيبوا له، فندبهم ثلاثة أيام والناس يسمعون منه ولا يستجيبون، حتى إذا ندبهم للمرة الرابعة قام إليه أبو عبيد بن مسعود الثقفي منتدبا، واضطر عمر إلى أن يلح على الناس ويدفعهم إلى الجهاد دفعا حتى إذا استطاع أن يجمع ألف رجل من المهاجرين والأنصار أمر عليهم أبا عبيد، فكلمه الناس في أن يؤمر رجلا من كبار المهاجرين والأنصار فأبى؛ لأنهم تقاعدوا عن الجهاد وكرهوا لقاء الفرس وألح في أن يؤمر أول من انتدب للحرب، ثم خالف عن سياسة أبي بكر، فأباح لمن كان ارتد من العرب ثم عاد إلى ما خرج منه أن يشارك في الجهاد، فأقبل هؤلاء مسرعين، وأقبلت جموع من اليمن فضمهم عمر إلى الجيش.
وسار أبو عبيد بجيشه بعد أن أوصاه عمر بالحزم والأناة وبإمعان الروية وحسن التدبير، وانتهى أبو عبيد إلى العراق ومعه المثنى بن حارثة تابعا له وليس أميرا، فانضم إلى من كان هناك من المسلمين، وتهيأ للقاء الفرس، وكان أبو عبيد شجاعا جريئا، وقد غلبت شجاعته وجرأته رأيه وأناته، وغلبت رأي الذين أشاروا إليه وألحوا في ألا يعبر الفرات للقاء الفرس، وإنما يخلي بينهم وبين العبور إليه، فإن أتيح له النصر فذاك، وإن كانت الأخرى وجد الأرض من ورائه يرجع إليها متحيزا لفئة المسلمين من جزيرة العرب، ولكنه - رحمه الله - كره أن يكون الفرس أجرأ على الموت من المسلمين، فعبر بالناس النهر ثم قطع الجسر من ورائه حتى لا يتحدث أحد من المسلمين إلى نفسه بالفرار.
وكان المسلمون في تلك الأيام لا يكرهون شيئا كما يكرهون الفرار، ويستحضرون في نفوسهم وقلوبهم هذه الآية الكريمة التي كانوا يستحضرونها في كل موطن من مواطن الحرب، وهي قول الله - عز وجل - من سورة الأنفال:
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .
وكان المسلمون في تلك الأيام إذا انتدبوا للجهاد حرصوا أشد الحرص على أن يظفروا بإحدى الحسنيين: الظفر بالعدو وما أعد الله لهم من الأجر يوم القيامة، أو الظفر بالشهادة وما ضمن الله لهم من حياة الشهداء في جنته ورضوانه؛ لأن الله يقول:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم
سورة التوبة.
وقد أقدم المسلمون - مدفوعين بهاتين الآيتين الكريمتين وبآيات كثيرة غيرهما من الكتاب العزيز - فقاتلوا مستبسلين، وكان قائدهم أبو عبيد أشدهم إقداما وأعظمهم استبسالا، ولكن الفرس على كثرتهم كانوا قد قدموا بين أيديهم شيئا لم يألفه العرب في قتالهم من قبل وهي الفيلة، فلما رأتها خيل المسلمين نفرت منها نفارا شديدا. وكان في مقدمة هذه الفيلة فيل عظيم تعرض له أبو عبيد، فطعنه، فلما أحس الفيل حر الطعنة ثار فطرح أبا عبيد في الأرض وقتله.
وقتل يومئذ من المسلمين عدد غير قليل بعد أن أحسنوا البلاء، واضطروا آخر الأمر إلى الفرار، فإذا النهر وراءهم، فجعل بعضهم يساقط في النهر فيغرقون، حتى أقبل المثنى بن حارثة ومعه نفر من أصحابه فوقف على شاطئ النهر، وجد في عقد الجسر، وانحاز بقية المسلمين إليه، فعبروا النهر وقد بلغ منهم الجهد وكثرت فيهم الجراحات وتفرق كثير منهم بعد عبور النهر فعادوا إلى الحجاز، ورجع بعضهم إلى المدينة.
وبلغ خبر الهزيمة عمر - رحمه الله - فبكى، وقال: رحم الله أبا عبيد لو انحاز إلي لكنت فئته. وكان يكثر من ترديد ذلك، يهدئ به روع المنهزمين ويبين لهم أنهم لم يفروا وإنما انحازوا إلى فئة، فلم يتعرضوا للعقاب الشديد الذي أنذر الله به الفارين في الآية الكريمة من سورة الأنفال التي أثبتناها آنفا.
Bog aan la aqoon